إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا. إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فاللّه رحيم. رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر .. والعياذ باللّه ..
وهذا التحذير من اللّه قائم إلى آخر الزمان .. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه .. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن اللّه. واللّه لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيرا:إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ورجاء المؤمن في رحمة اللّه لا يخيبه اللّه أبدا .. ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق ، فجاهدوا وصبروا ، حتى حقق اللّه لهم وعده بالنصر أو الشهادة. وكلاهما خير. وكلاهما رحمة.
وفازوا بمغفرة اللّه ورحمته: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..وهو هو طريق المؤمنين ..
ثم يمضي السياق ، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار .. وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها. يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم ، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ..
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر. ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما. إنما كان اللّه يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها ، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها. وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر ، ولا تناسبه بعثرة العمر ، وبعثرة الوعي ، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين ، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم ، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية. أمس واليوم وغدا! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة ..
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم. فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا. فالخير يتلبس بالشر ، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض. ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة