فهرس الكتاب
الصفحة 45 من 192

جواب: لقد جعل الحنفية الإيمان بمنزلة النصاب في الزكاة والذي لا يعتد بما دونه؛ فنصاب الذهب واحد لا يزيد ولا ينقص وإن تفاوت الناس في الغنى بالذهب، وزكاة الفطر صاع لا يزيد ولا ينقص وإن كان من الناس من يعطي صاعين أو أكثر [1] فقد جعلوا للإيمان أصلاً لا يعتد بما دونه، وهو الذي لو انحط عنه الإيمان لجاء الكفر مكانه؛ وجعلوا الناس كلهم فيه سواء؛ وأبقوا التفاضل في أمور تتعلق بالإيمان من الخشية وغيرها. والإيمان بمعنى التقوى والخشية يزيد وينقص والناس يتفاضلون فيه [2] كالعقل مثلاً؛ فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض [3] فالحنفية إذن لا ينفون تفاوت الناس في الدرجات الإيمانية، ولا تفاوت الحالة الإيمانية للشخص نفسه؛ ولكنهم يرجعون ذلك إلى التفاضل والتفاوت في متعلقات الإيمان وثمراته، التي هي خارجة عن حقيقة الإيمان عندهم، والتي هي معنى فرد: إما موجود فصاحبه من الناجين؛ وإما معدوم فصاحبه من الهالكين.

ولذلك نجد الحنفية يمنعون الاستثناء في الإيمان، لأن ذلك عندهم معناه الشك والتردد الذي يعود على أصل الإيمان المنجي بين الكفر -والذي هو فقط مسمى الإيمان عندهم- ولكنهم يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا كان من باب عدم العلم بالعاقبة، وتعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في الإيمان. فمن عُلم قصده لذلك بقرائن ظاهرة، فلا وجه عندهم لمنعه من الاستثناء [4] .

وأما عن الأعمال التي أطلق عليها الشارع اسم الإيمان -أي زادت على هذا الأصل الذي هو مسمى الإيمان عندهم حقيقة -فقد ذهبوا إلى أن إطلاق الاسم عليها -وهي من مقتضيات الإيمان ولوازمه وثمراته- إنما هو من باب المجاز، لا من باب دخولها في الاسم حقيقة [5] .

وكذلك الأعمال التي أطلق عليها الشارع اسم الكفر دون أن تكون ناقضة لأصل الإيمان وغير مخرجة من الملة -والتي أطلق عليها جمهور السلف والأئمة كفراً أصغر أو كفراً دون كفر أو كفراً عملياً أو كفراً غير مخرج من الملة- فقد ذهب الحنفية إلى أن تسمية هذه المعاصي كفراً إنما هو من باب المجاز؛ لأن حقيقة الكفر في عرف الشارع عندهم هو ما يخرج به المرء عن دائرة الملة الإسلامية؛ ومن ثم فقد أطلقوا على هذا النوع من الكفر: كفراً مجازياً واتفقوا مع غيرهم من أهل السنة على عدم خروج صاحبه عن دائرة الملة وعدم تخليده في النار [6] .

(1) التنكيل للمعلمي حـ2 ص364.

(2) من هدي سورة الأنفال للمصري ص107.

(3) شرح الطحاوية ص375.

(4) المسامرة ص340 وشرح الطحاوية ص395.

(5) الإيمان لابن تيمية ص184 وشرح الطحاوية ص374.

(6) شرح الطحاوية ص360.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام