فهرس الكتاب
الصفحة 47 من 76

والأهواء، لا ميزان الدين والدار الآخرة، وكفى بكم جهلاً أن تقولوا هذا الكلام على فعل شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهه، بل عاد إليه في اليوم الثاني دون نكاره من صاحب الشرع الشريف، فإن احتججتم برواية الطبري وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (( ألم أنهك ) )،فهذا من جهلكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (( إني أخاف عليك أن تقتل ) )فقال أبو ذر: لابدّ وإن قتلت، فقال أبو ذر فسكت عني، والظن بكم مع شدة الجهل فيكم أن تعلموا أن هذا اقرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سكت.

أما ما زعمتم من مخالفة فعل أبي ذر رضي الله عنه لقواعد الدعوة كما تقولون، فهذا كذب على قواعد الدعوة، فإن أبا ذر رضي الله عنه أراد أن يسمعهم كلمة الوحيد لأنها حق في نفسها، أما كيق تلقيهم لها فهذه جنابتها على أنفسهم لا على من يقول كلمة الحق، فإن قائل الحق لا يلام بوجه من الوجوه، وخاصة أن قريش قد أعلنت كفرها وصدها لكلام الله وتوحيده، فعذر الموحد المسلم بعد ذلك فيهم، بل له الأجر في ايذائهم في دينهم واغضاب حمية الجاهلية في قلوبهم، أما تصوركم أن أهل الباطل والشرك علة رفضهم للحق عدم حكمة الداعي ورفقته بهم فهذا من أبطل الباطل، إذ أن الأنبياء هم أكثر الناس حكمة في الدعوة إلى الله ولم يستجب لهم إلا القليل، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد وهو أحكم خلق الله وأرفقهم، وأشدهم رغبة في هداية الخلق لم يسلم على يديه في مكة طوال ثلاث عشرة سنة إلا القليل لا يصلون للمائة، وإنما دخل الناس في دين الله تعالى بالجهاد في سبيل الله، فاتهام الداعي بالضعف إن عضب المشرك حمية لدينه الباطل فآذى الداعي أو قتله إنما هو اعذار للمشرك واتهام للموحد، وهذا صنيعكم اليوم، وهو من تلبي الشيطان عليكم وجهلكم بكتاب الله تعالى حيث يقول ربنا:- (( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) )وقال (( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) )ـ ثمّ إنكم لم تفهموا دافع أي ذر لذلك، فإنه رضي الله عنه لما استخفى في السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطلبه أراد أن يبين أثر الإيمان على قلبه، وذلك لما رأى اعلانه تكفيراً لذنب الضعف (كما يأتي في نفس المهتدي لحظة اشراق الإيمان فيها الذي وقع فيه قبل الإيمان، وهو دافع إيماني ممدوح يؤجر فاعله ويثاب عليه.

فحكمة الدعوة التي تزعمونها لا وجود لها إلا على صورة باطلة من قعلكم وهو الجلوس لدى أهل الشرك والضحك معهم، واللعب في نواديهم، ومشاركتهم لهوهم وطعامهم وشرابهم دون أن تصرحوا لهم بكفر ما هم عليه، ولا ببيان مستقرهم بعد الموت وأنهم في النار، إذ أنهم لا يسمعون منكم هذا البتة، وليس هو مرادكم أصلاً، بل مراد حكمة الدعوة عندكم أن يحبونكم ويبستمون لكم ويسبغون عليكم صفات المدح كالاعتدال وحسن السلوك، ثم يرونكم بعد ذلك جزءاً منهم، لا يغضبون منكم، لأنكم لا تغضبونهم كما أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش كما قال الزهري رحمه الله:- دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً وجهراً فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار مكة غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنه غلام بني عبد المطلب يكلم من السماء، فكان ذلك حت عاب آلهتهم التي يعبدونها، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنقوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وعادوا.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام