فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها، فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت له فأرسل، فأهوى إليها فتناولها، فأخذ بمثلها أو أشد، ففعل ذلك الثالثة، فأخذ، فذكر مثل المرتين الأولتين. فقال: ادعي الله فلا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه، فقال: إنك لم تأت بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها، وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحس ابراهيم مجيئها انفتل من صلاته وقال: مهيم؟ قالت:- كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر )) .
وهذه التي سماها الحبيب كذبات إنما هي من قبيل الحجة أو المعاريض كما هو بين، وما يهم هنا قول ابراهيم الخليل (( إني سقيم ) )،فإن قوله هذا خدعة نبوية لهم ليصرفهم عنه حتى يحقق مراده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (( الحرب خدعة ) )وهو باب في الشرع معروف معروف لا ينكره إلا أهل الورع البارد والجهل المقيم.
ابراهيم عليه السلام يخبر عن مراده في كيده للأصنام:-
(( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) )
(( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم ) )
بغض الخليل لأصنام لم يجعله يصرح ببطلانها وفسادها فقط، لكنه ذهب إلى أكثر من ذلك، وهو التهديد بالكيد لها، وهذا الكيد يتضمن الإيذاء أو الكسر أو تلطيخها بالسوء والقذارة، وكل ذلك محتمل.
وهذا الفعل دافعه شدة البغض، فهو لا يريد أن يكشف سره، فلو أراد ذلك لكنا قصده أن يمحوها ويتنبهوا لها حتى لا يقع لها الكيد الذي قاله، وهذا غير مراد قطعاً، إنما تندفع من نفس المرء كلماء هو حريص على اخفائها في وقت تضغط على نفسه معاني قوية تدفع هذه الكلمات للظهور.
وبغض ابراهيم الخليل لهذه الأصنام ظهر في طريقة كسرها ومخاطبتها إذ قال الله تعالى (( فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين ) )
فخاطبه عليه السلام لها على هذا الوجه يحمل دلالة الاستهزاء والبغض، وطريقة الضرب باليمين أي بشدة وقوة دليل على ذلك كذلك.
وقال تعالى (( فجعلهم جذاذاً ) )أي قطعاً صغيراً لا تبين عما كانت عليه من الصور.
(( فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ) )
(( فراغ عليهم ضرباً باليمين ) ).
والروغ هو الذهاب سراً وبسرعة، كما قال الله عنه في احضاره طعاماً للملائكة (( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ) )وإنما ذهب سراً حتى لا يؤذيهم بصراخه في أهله أن يحضروا الطعام، وبسرعة حتى لا يؤذيهم في انتظار الطعام وهم أهل سفر.