أبواب الفقه، ولذلك لم تفقهوا قول الهداة من فقهاء الملة من جواز انغماس الرجل في الصف لا يرجو النجاة ابتغاء الشهادة والأجر، وطلباً لاظهار محبة المسلمين للدار الآخرة، وبيان يقينهم عليها، فأنتم حين تفكرتم في فعل أبي ذر بحسب قانونكم في المصالح والمفاسد لم تروه إلا على معنى أن الرجل ضر نفسه وعرضها للتهلكة والموت دون مصلحة راجحة من مصالح الدنيا التي تفهمونها، حتى إن رفعة الدين عندكم ونصره إنما هو مصلحة لما يحقق هذا النصر من دنيا مريحة، وغنائم تجتنوها، وتمكين تبسطون فيه سلطانكم فتنّعمون في الرغد والشهوة، أما مصلحة قول كلمة الحق التي تورث الشهادة والجنان، فهذا لا حضور له في أذهانكم البتة، وبسببه وردتم ضلالات الفتاوى من منع المجاهدين ودعوتهم لترك الجهاد وإن لم يتحققوا الظفر بجهادكم، إذ لم تفهموا أن الجهاد مشروع محبوب في ذاته، وأن طلب الشهادة محبوبة مطلوبة لذاتها سواء حقق الجهاد وطلب الشهادة الظفر على الأعداء أم لا.
إن قانون الصحابة في الأعمال منذ أن يعلن المرء منهم كلمة التوحيد غير قانونكم، فهو إنما يعتبر مصلحة الدين واظهاره حتى لو مات أو أهلك ماله أو فارق أهله، ولا يقيم شأناً لمثل هذه مثابل مصلحة اظهار الحق، وهو ينظر إلى العمل الذي يحقق له الأجر والشهادة والدخول في الرضى الإلهي وتحقيق الجنان، وهذا هو الذي نزع إليه أبو ذر رضي الله عنه غير ملتفت لهلاك نفسه أو بعضها، بل هو يفرح لو هلكت في سبيل ذلك لأن هذا مطلبه وهذا مبتغاه، فشتان بين قانونكم الباطل وبين قانون الإيمان.
لقد صير قانونكم في ما تدعونه من تحقيق المصالح ودرء المفاسد أمة الاسلام إلى أمة كسائر أمم الأرض من غير المؤمنين بالله والدار الآخرة، بل جعلتوها أرذل وأخس منهم إذ حطمتك إرادتهم حتى وهم يندفعون لرد الصائل على الدين والدنيا بحجة عدم تيقن الظفر في ردهم، ونصحتموهم بالجلوس والقعود وترك الجهاد، فما أشقى الله بكم، بل ما أشقى أمة أنتم قادتها وعلماؤها.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا حتى إذا كان بين عُسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم.
فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً.
فقال عاصم:- أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم اخبر عنا نبيك.
فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنّبل.