فحكمة الدعوة عندكم أن يحبونكم بسبب كتمانكم الحق، وحصولكم على الرضى والبسمات منهم، أما حكمة الدعوة في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم أن يعلم الناس الحق وأن يسمعوه ثم بعد ذلك فعليهم ما حملوا وعلى الداعي ما حمل.
وفعل أبي ذر رضي الله عنه هذا ليس مزيداً في بابه من اسماع المخالف كلمة الحق التي تغضبه، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يفعلها، ويناله ما نال أبو ذر من البلاء، فقد اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا:- والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟
فقال عبد الله بن مسعود: أنا.
فقالوا: إنا نخشاهم عليه، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه.
فقال: دعوني، فإن الله سيمنعني.
فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، فقال رافعاً صوته:- (( بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علم القرآن ) )فاستقبلها فقرأ بها، فتأملوا، فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا:- إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد. فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه.
فقالوا:- هذا الذي خشينا عليك.
فقال:- ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً.
قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
فهذه سنة مطروقة في اسماع الكفار والمشركين والمنافقين ما يكرهون.
أما قولكم إن هذه القصة في اسلام أبي ذر كانت زمن سرية الدعوة فهذا من جهلكم، فإن أبا ذر اسلم بعد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل في وقت الجج، ولذلك بلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، ثمّ إن فهمكم لسرية الدعوة على معنى غلط، إذ تظنون أن سرية الدعوة تعني عدم الدعوة، وهذا ظن باطل، بل إن بعضكم يظن أن سرية الدعوة تجيز لهم اظهار الكفر بلا اكراه بل لداعي السرية فقط، وهذا لا يقوله مسلم، فإن اظهار الكفر لا يجوز إلا في حالة واحدة وهي الاكراه الملجئ، وكتمان الإيمان لداعي الخوف جائز من غير اظهار الكفر، ففرق بين كتمان الايمان وبين اظهار الكفر، إذ أن كتمان الايمان لا يستلزم اظهار الكفر وجوباً، يفهم هذا كل أحد.
أما قولكم إن قانون المصالح والمفاسد يحكم على فعل أبي ذر بالغلط، فههنا تسكب العبرات، ويناح على الاسلام وأهله من فقهكم الغريب المنكوس، ومن جهلكم بمعنى المصلحة الشرعية المعتبرة في دين الله تعالى، ومن أقوالكم التي نسبتوها للشرع تحت قانونكم الباطل هذا والشرع منها براء، بل هي تضاد الدين وتوحيد الله من كل وجه، اذ جعلتم دين الله على معنى ما يفهمه أهل الأهواء والأديان الباطلة من أديانهم الباطلة، أي مطية لدنياهم، فما ضر دنياهم هو المفسدة، وما نفعها فهو المصلحة، أما مصلحة الدين والتوحيد والدار الآخرة فلا معنى لها عندكم في