قال الفقهاء الجدد:-
هذا حديث لا نقول به، ولا نفتي بمعناه، لأنه يدعو إلى اختيار مفسدة الهلكة على مصلحة النجاة في حال تيقن فيه عاصم الموت، فلو نزل في ذمتهم لكان في فعله سهة بالنجاة، مع أنها مظنونة، وهي مع ظنها مقدمة على اختيار يقين الهلكة بلا مصلحة شرعية معتبرة للدين والدنيا، لأننا نعلم من دين الله أن هذا القاء للنفس في الموت المحقق وهذا منهي عنه شرعاً لقوله تعالى (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ) )،بل ربما كان اختيار عاصم وهو الأسر لهذا الفعل هو ما قوّى الآخرين معه لهذا الاختيار، فكان في ذلك قتلهم، وهو يعلم يقيناً هذا، إذ أن رجاء ظفر ستة رجال أمام مائة لا يكون، ولذلك فما نفتي به عدم جواز الاقتداء بهذا الفعل، بل على المرء المسلم أن يسعى جهده للنجاة ما وسعه ذلك، وخاصة إن كان له شأن فيهم كشأن عاصم يكون في نجاته نفعاً للمسلمين وزيادة خير له.
قال أهل الحق والقرآن:-
إن هذا الفقه الذي تزعمونه فقه ضال، إذ يحرم معالي مراد القلوب في طلب الشهادة واختيار الموت على الأسر، ويوجب على المسلمين ما هو جائز لا يبلغ درجة الاحتساب من النجاة والاستئسار على الشهادة، وبين من قتل نفسه جزعاً من قدر الله تعالى.
أما زعمكم بأن المرء لا يقاتل حتى يرجو الظفر أو النجاة فهذا من جهلكم بما يحب الله تعالى وما يكره، فلو تأملتم حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لرأيتم أن طلب النجاة بترك الجهاد عندهم معصية من المعاصي التي تحتاج إلى التوبة، ولا يقول بها إلا الجبناء، أما ترك الجهاد بسبب فوات الدنيا فهي أكبر من الأولى، ولذلك فأنتم تفتون بالكبائر لا الطاعات، أما زعمكم أن الجهاد لا يكون إلا مع رجاء الظفر والغلبة فهذا كذلك من جهلكم بالدين، وعدم فقهكم بمقاصد الجهاد لأن من مقاصد الجهاد تحقيق الشهاة كما وقع لأنس بن النضر في أحد بعدما وقعت المصيبة على المسلمين بانكشافهم إذ مر قوم على قوم قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على مات عليه رسول الله.
فها هو الصحابي المؤمن يدفع اخوانه للموت قتالاً في سبيل الله، فمن زعم أن طلب الموت في الجهاد مفسدة فهو أضل من أن يقال له مفتي أو فقيه أو عالم، وتبيَّن من فعل أنس بن النضر رضي الله عنه عدم رجاء السلامة ولا الظفر إنما هو جهاد طلباً للشهادة، وهي مقصود المؤمنين.
أما قولكم إن نجاة أمثال عاصم ومن معه من القراء أي العلماء خير للدين، فهذا من جهلكم كذلك، لأن الخير لدين المسلمين أن يروا علماءهم- أمثالكم- يقولون كلمة الحق فيقتلون ويسجنون، وأن يجاهدوا فيستشهدون، فتزداد ثقة المسلمين بدينهم، إذ يرون علماءهم يحبون الشهادة والدار الآخرة، ويزداد التابعون لهم بإحسان في باب الجهاد وقول كلمة الحق، لكن حين يرون أمثالكم ممن تسموا بالعلماء هم أكثر الناس حرصاً على الدنيا كما قال الله في يهود (( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) )،ويرزنهم