ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه .. إنها ليست الأرض وليس الهوى .. إنما هي السماء والوحي الإلهي.
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة .. في كنف اللّه ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى اللّه مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين اللّه.
ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب .. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من اللّه وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم: خذوا هذا ودعوا ذاك! ولقد كانت فترة عجيبة حقا. فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى. فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها. وأحسوها. وشهدوا بدأها ونهايتها.
وذاقوا حلاوة هذا الاتصال. وأحسوا يد اللّه تنقل خطاهم في الطريق. ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا
وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض. مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم!
المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام!
وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا.
عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: قال أبو بكر لعمر - رضي اللّه عنهما - بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي اللّه عنها - نزورها كما كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يزورها. فلما أتيا إليها بكت. فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند اللّه خير لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ؟ قالت: بلى ، إني لأعلم أن ما عند اللّه خير لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها ... (أخرجه مسلم) ...
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.