فهرس الكتاب
الصفحة 452 من 491

الجماعة .. وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة. بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة ..

وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية ، في ظل العقيدة الدينية ، وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه.

إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من اللّه سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون ..

وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم .. الصدق .. والاستقامة. وأن يكون باطنه كظاهره ، وأن يطابق فعله قوله .. إطلاقا .. وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة.

وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيرا ، وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيدا: يقول اللّه تعالى منددا باليهود: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .. ويقول تعالى منددا بالمنافقين: «وَيَقُولُونَ: طاعَةٌ. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ» .. ويقول فيهم كذلك: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» .. ويقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان «1» ». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه .. روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم -: وأنا صبي ، فذهبت لأخرج لألعب. فقالت أمي: يا عبد اللّه تعال أعطك. فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم -: «وما أردت أن تعطيه!» فقالت: تمرا. فقال: «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» ..

ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام أحمد بن حنبل - رضي اللّه عنه - من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثا. حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ! فتحرج أن يروي عنه ، وقد كذب على بغلته! فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أمينا على منهج اللّه في الأرض.

وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة. وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها اللّه لتقوم على هذا الأمر.

فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها .. وهو موضوع الجهاد .. فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام