ومتى وجد المسلمون حقا ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ..وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة. ولكن الإنفاق العام من رزق اللّه كان توجيها مبكرا في حياة الجماعة الإسلامية. بل إنه ولد مع مولدها.
ولا بد للدعوة من الإنفاق. لا بد منه تطهيرا للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند اللّه. وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان. ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة. فالدعوة كفاح.
ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره. وأحيانا يكون هذا التكافل كاملا بحيث لا يبقى لأحد مال متميز. كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة. حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة.
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات ..
«وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» .وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة.
صفة الانتصار من البغي ، وعدم الخضوع للظلم. وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة.
لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل وهي عزيزة باللّه. «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» .. فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة ، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة.
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي:
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعا قبليا مخلخلا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب ، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه - ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة - كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالبا. ولم يكن الرسول - صلّى