إن اللّه يعلم. وهذا يكفي وإن وظيفة الرسل البلاغ. وقد أدوه. والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف. وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار. والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن اللّه فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى اللّه.
ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى فتأخذهم العزة بالإثم ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد: «قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
قالوا: إننا نتشاءم منكم ونتوقع الشر في دعوتكم فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم ، ولن ندعكم في دعوتكم: «لَنَرْجُمَنَّكُمْ ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وهكذا أسفر الباطل عن غشمه وأطلق على الهداة تهديده وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة ، وعربد في التعبير والتفكير! ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق: «قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ» ..فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهم وأعمالهم ، متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا أو أن يجعلوه شرا. فإن إرادة اللّه بالعبد تنفذ من خلال نفسه ، ومن خلال اتجاهه ، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح. أما التشاؤم بالوجوه ، أو التشاؤم بالأمكنة ، أو التشاؤم بالكلمات .. فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم! وقالوا لهم: «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟» ..
يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير؟
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» ..تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب! تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل. وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.