محدود من أمة أو قطر. بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها ، ولا تغفل عنها طرفة عين. فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ، ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها. فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة.
ويقول لها مطالبا بحقه: ما بالكم تقولون: إن القضية الفلانية «حق» في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلا ، ثم تعود القضية نفسها «باطلا» - بزعمكم - إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع؟! الحق حق في كل حال وفي كل مكان! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية؟! الحق ظله وارف ، وخيره عام شامل ، لا يختص ببيئة دون بيئة ، ولا قطر دون قطر. فأينما وجد «الإنسان» مقهورا فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له. ومهما أصيبت «الإنسانية» في أبنائها المستضعفين ، فعلى العدل ومبادئه والحاملين للوائه أن يلبوا نداءها ، ويأخذوا بناصرهم حتى ينتصروا لهم من أعدائهم الجائرين ، ويستردوا لهم حقوقهم المغصوبة التي استبد بها الطغاة بغيا وعدوانا. وبهذا المعنى نطق لسان الوحي ، حيث ورد في التنزيل: «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» ... (النساء: 75) «وزد على ذلك أن الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية - على ما أثرت فيها الفوارق القومية والوطنية ، وأحدثت فيها من نزعات الشتات والاختلاف - قد تشتمل على تلاؤم شامل ، وتجانس عام بين أجزائها ، ربما يتعذر معه أن تسير مملكة في قطر بعينه بحسب مبادئها وخططها المرسومة المستبينة ، ما دامت الأقطار المجاورة لها لا توافقها على مبادئها وخطتها ، ولا ترضى بالسير وفق منهاجها وبرنامجها «1» . من أجل ذلك وجب على الحزب المسلم ، حفظا لكيانه ، وابتغاء للإصلاح المنشود ، ألا يقنع بإقامة نظام الحكم الإسلامي في قطر واحد بعينه. بل من واجبه الذي لا مناص له منه بحال من الأحوال ، ألا يدخر جهدا في توسيع نطاق هذا النظام وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الأرض. ذلك بأن يسعى الحزب الإسلامي ، في جانب ، وراء نشر الفكرة الإسلامية ، وتعميم نظرياتها الكاملة ونشرها في أقصى الأرض وأدناها ويدعو سكان المعمورة - على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطبقاتهم أن يتلقوا هذه الدعوة بالقبول ، ويدينوا بهذا المنهاج الذي يضمن لهم السعادتين ، سعادتي الدنيا والآخرة .. وبجانب آخر ، يشمر عن ساق الجد ، ويقاوم النظم الجائرة المناقضة لقواعد الحق والعدل بالقوة ، إذا استطاع ذلك وأعد له عدته ، ويقيم مكانها نظام العدل والنصفة ، المؤسس على قواعد الإسلام ومبادئه الخالدة التي لا تبلى ، ولن تبلى جدتها على مرور الأيام والليالي.
«هذه هي الخطة التي سلكها. وهذا هو المنهاج الذي انتهجه النبي - صلّى اللّه عليه وسلم - ومن جاء بعده ، وسار بسيرته من الخلفاء الراشدين ، فإنهم بدأوا ببلاد العرب. ثم أشرقت شمس الإسلام من آفاقها.