شريعتهم - بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة - وكانوا على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم. والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء بغير عذر ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على اللّه وسقوطها بمجيء الرسل إليهم ، وببيان شريعتهم لهم: «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» ..
وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود اللّه والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال؟
وفي الآية السابقة قرن اللّه قتل النفس بالفساد في الأرض وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة وتفظيع جريمة إزهاق الروح .. ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة .. ذلك كله ضروري كأمن الأفراد .. بل أشد ضرورة لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء .. وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية. ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء .. فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ما لم يثب إلى الرشد والصواب ..
فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ .. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة اللّه ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم. ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام. ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقا عليها. سواء خارج المصر أو داخله. وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه.