فهرس الكتاب
الصفحة 193 من 491

ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب ..

ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج اللّه - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر!

غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه وإنماء قدرات ممكنة النماء وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد اللّه ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم اللّه أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد اللّه وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة اللّه. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا ، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها فلا يغني العقل البشري عنها ..

أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام ..

إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة اللّه وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة.

وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام