وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية،فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمناً.ويستيقن أنها فترة وتمضي،وإن للإيمان كرة لا مفر منها.
وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأساً.إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد.وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة،وغالبه يغادرها إلى النار.وشتان شتان.وهو يسمع نداء ربه الكريم: { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ،مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ،لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } ... [ آل عمران:196 - 198 ]
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه،فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى،وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون.وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز،وفي رحمة كذلك وعطف،ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه،ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه.
ويضج الباطل ويصخب،ويرفع صوته وينفش ريشه،وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر،فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم،وفجر كالح لئيم..وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش،وإلى الجموع المخدوعة،فلا يهن ولا يحزن،ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه،وثباته على المنهج الذي يتبعه،ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة،ويمضي مع نزواته الخليعة،ويلصق بالوحل والطين،حاسباً أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود.وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال،ولا يبقى إلا المشروع الآسن،وإلا الوحل والطين..وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين.وهو مفرد وحيد،فلا يهن ولا يحزن،ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر،وينغمس في الحمأة،وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين.
ويقف المؤمن قابضاً على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين،وعن الفضيلة،وعن القيم العليا،وعن الاهتمامات النبيلة،وعن كل ما هو طاهر نظيف