القريبة،تنظر فيها،وتتعمقها وتتقصاها،وتعمل وتنتج،وتنمي هذه الحياة وتجملها،على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود،وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول.فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها،دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة،وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول..فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا،ومحاولة عابثة أخيرا.فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال.وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال..ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى،وهي أن المحدود لا يدرك المطلق،لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل و.ن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن،والغيب والشهادة..وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون،وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة.ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان،كجماعة الماديين في كل زمان،يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى..إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية» وهو النكسة التي وفى اللّه المؤمنين إياها،فجعل صفتهم المميزة،صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» والحمد للّه على نعمائه،والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! [1]
وهذه الخصيصة قد اعترف بها كثير من خصومها؛فلا يوجد ـ بحمد الله ـ أصل من أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة ـ ليس له أصل أو مستند من الكتاب والسنَّة،أو عن السلف الصالح،بخلاف العقائد الأخرى المبتدعة. [2]
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 39)
(2) - انظر كتابي (( الواضح في أركان الإيمان ) )