فقه القصص القرآني، وفقه السيرة النبوية لا يمكن تحقيقه إلا بأن يفهم المرء واقعه، وما فيه ثم بعد ذلك يذهب الى التاريخ النموذج ليأخذ منه الحل، ثم كيف يجري هذا الحل في واقعه فتلك قضية أخرى مجالها عقل هذا الانسان وابداعه وحكمته.
الهجرة في سبيل الله تعالى حل شرعي لواقع معلوم حاله في الأمم، لكن تحقيق الهجرة في واقع ما يحتاج الى حكمة وهداية عقل وقيادة واعية.
الأمة الاسلامية اليوم تعاني شللاً في هذا الباب، وأكثر الناي انحرافاً في هذا الباب هم أكثر الناس رفعاً لشعار احياء حياة السلف، اذ معاناتهم في هذا الباب مرضية بامتياز، فهم وإن كانوا أقرب الى غيرهم في الشرعيات لكنهم هم والصوفية في مرتبة واحدة في انكار الحقائق والعقليات، فإن سحبهم للتاريخ دون النظر للواقع يدل على أن ما يزعمون من فتح باب الاجتهاد ولا يعني أكثر من دعوى عارية عن الدليل بكل جوانبها.
لا يعني أن هؤلاء فقط في هذا الباب، بل وراءهم جموع من المشايخ الذين يلتصقون بالتاريخ على وجه مرضي غريب، فهل يبعد عن الصوفية الغنوصية السابقة أمثال رجال كثر يريدون تقليد تجربة سابقة حققت بعض النجاح في ظروفها، ويتخذونها نموذجاً كلياً للعمل، فإن كانت التجربة علمية غير اجتماعية جعلوها نبراساً لهم بهذا الشرط، أو كانت علمية غير سياسية كانوا كذلك، أو كانت علمية غير جهادية أصروا أن هذا شرط النجاح الذي يجب سلوكه، وهكذا دواليك، وهم يجمعون الأتباع بسبب سطوة الأسماء السابقة، وميل الجموع المسلمة الى التقليد وموت العقل وغيابه، ولا يغرنك أبداً ادعاء الاجتهاد، ونبذ تقليد الأئمة، فهذه شنشنة تمارس على مسائل لم يبق فيها ما يقال، أما تحقيق التجديد للأمة في رفعها من واقعها، وتثوير ارادتها نحو أهداف الاسلام ومرتبة الخيرية فهذا لا يكاد يوجد فيه شيء من التجديد ولا الاجتهاد، إنما هو التقليد ورفع سيوف السابقين في تجاربهم الحياتية والاصلاحية.
هذه الكتب التي تتحدث عن مقومات النجاح كرفع الهمة، وتقوية الارادة هل تراها تتحدث عن السبيل القويم في عمل هذه الهمم والارادات، وماذا تعمل إن رفعت وقويت؟!
سيقول لك البعض نعم، وأنا أقول كذلك نعم.
إنها تتحدث عن الهمة في طلب العلم، والهمة في قيام الليل، والهمة في الطاعات النسكية، وهذه أمور حسنة شرعية مهمة في حياة الأمة الاسلامية، لكن مازال السؤال قائماً:- أين السبيل القويم في احياء الأمة من كبوتها ورفعها الى مرتبة الخيرية والوراثة؟ لقد مارس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفعالاً نموذجية في القدوة، كانت هي الأهدى والأقوم في زمانهم، وفي داخلها يوجد المخرج لواقعنا، ومما لا شك فيه أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم هي السيرة الأولى للقدوة، مع علمنا بأن قاعدة السيرة النبوية في الفعل كان منها ما هو مشتق من سيرة الأنبياء والسابقين، لقوله تعالى (( فبهداهم اقتده ) ).
لقد حاولت في كتابي في شرح غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تقديم العلاج لهذا الواقع، وتتميماً للفائدة من أجل تحقيق معنى الاقتداء بالقصص القرآني رأيت أن أسجب فعلاً نبوياً مباركاً رشيداً من التاريخ إلى واقعنا،