من هذا السرد المتقدم لأخبار الخليل ابراهيم عليه السلام يتبين لنا أن السور المكية لم تقتصر على ذكر خبر ابراهيم مع قومه بل ذكرت عبادته ونسكه وأدعيته، فسورة ابرايهم مكية وليس فيها إلا أدعية ابراهيم عليه السلام، وكذلك النحل مكية وفيها الشهادة له بالتوحيد والإمامة، والسور المدنية التي ذكر فيها عليه الصلاة والسلام هي البقرة، وأهل التفسير يجعلون ذكره في الموطن الأول هناك مقدمة لتغيير القبلة، وسورة آل عمران، وحديث الموطنين فيها هو بيان حاله وإمامته عليه الصلاة والسلام.
وسورة الحج وفيها بيان لبعض مناسك الحج التي كانت شرعة لابراهيم عليه السلام من قبل، فتكون هذه السور المدنية حاوية أكثر ما يكون لقضية البيت الحرام وارتباطه بالتوحيد والنسك ورد ادعاءات المخالفين للإسلام من أهل الكتاب والمشركين في صلتهم بإبراهيم عليه السلام، وتبقى سورة الممتحنة وهي مدنية وقضيتها تتعلق بتوحيد ابراهيم ومن معه في براءتهم من قومهم وأصنام قومهم وعبادة قومه، والدعوة إلى الإقتداء به في ذلك، لأن هذا هو موضوع سورة الممتحنة.
وهناك أمر آخر يبرز في هذا العرض هو تكرر الأمر بالإقتداء به عليه الصلاة والسلام كما في سورة البقرة وسورة الأنعام وسورة النحل وسورة الممتحنة، وهذه خصوصية زائدة لخليل الله تعالى ابراهيم عليه السلام ويحق له ذلك، فإن الله لما يذكر موكب الأنبياء في مواطن عدة إنما يبدأ به كما في قوله تعالى في سورة البقرة (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم ... ) ). صلى الله على نبينا وعلى جميع الأنبياء المرسلين.
فائدة: في سورة التوبة ذكر اللهُ ابراهيمَ عَليه السلام ليرد وجه الاحتجاج بفعله في استغفاره لأبيه الذي وعده إياه كما في سورة مريم (( لأستغفرن لك ) )،فقال تعالى (( وما كان استغفار ابراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن ابراهيم لأواه عليم ) ). وهذا الأمر فيه بيان اقتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه في الفعل، فإنه جرى على سنته في استغفاره لعمه لما رأى أباه استغفر لآزر، وهذا القدر هو ما يلزمنا هنا وهو أن الحبيب المصطفى كان مقتدياً بإبراهيم عليه السلام ويتقعبه كما أمر الله تعالى.