أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى ، ومتصادمة معها تماما ، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين.
إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة «أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه» في مكة. ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة .. ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد - وهم من أهل الكتاب! - وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة ، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد!. وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى - وهم من أهل الكتاب كذلك! - لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! .. إنها طبائع الأشياء .. إنها أولا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدا - ويستشعرها بالفطرة - أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة اللّه في الأرض ، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين «الناس كافة» وبين حرية الاختيار الحقيقية .. ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! .. فهي حتمية لا اختيار فيها - في الحقيقة - لهؤلاء ولا هؤلاء! وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن ، وعلى مدى التجارب وتتجلى في صور شتى ، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة ، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى ..
وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف ، وإلى تحركاته المستمرة ، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة ، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة.
وقد ذكر الإمام البغوي في تفسيره أن المفسرين قالوا: إنه لما خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى تبوك أرجف المنافقون ، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل اللّه الآيات بالنسبة لهؤلاء ، مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل ، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر.
وذكر الإمام الطبري - بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة -: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله اللّه لأهل العهد من المشركين ، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله