كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة ، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة ، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله - من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود - وأعدائه المتميعين فيه - من ضعاف الإيمان والمنافقين - وكشف وسائلهم وحبلهم ومكايدهم ، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم. مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده ، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط.
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية ، وهي تتصارع مع المنهج الجديد ، والقيم الجديدة ، والاعتبارات الجديدة. ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة. ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان. وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة ، عن المعركة التي يخوضها في الميدان الآخر ، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه! وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء ، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها - كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى - قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب ، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها .. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر .. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد ، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط ، الذي تمثله تلك الرواسب ، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة .. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط ، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح ، فيرتقي بها إلى تلك القمة ، رويدا رويدا ، في يسر ورفق ، وفي ثبات وصبر ، وفي خطو متناسق موزون! والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية ، يتجلى له جانب من حكمة اللّه في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية ، في ذلك الحين ، لهذه الرسالة العظيمة .. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة ، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية ، والعقلية والفكرية ، والأخلاقية والاجتماعية ، والاقتصادية والسياسية ، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج ، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة ، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر ، في كل ما عرفت الأرض من مناهج ، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج ، بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره ، وبكل تجاربه ، ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة ، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد.
سواء كانت في درجة من درجاته ، أم كانت في سفحه الذي التقط منه «الأميين» ! إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته ، لأنه يتعامل مع «الإنسان» . وللإنسان كينونة ثابتة ، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته ، ولا تبدل من كينونته ، ولا