وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب:ولما ذا صنع اللّه كذا.وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا:إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع! وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود،كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود..إن الذي يعلم كل شي ء،ويدبر كل شي ء،ويسيطر على كل شي ء،هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. [1]
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر اللّه وإذنه.باعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير.فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا،غير قابل للتصحيح المستأنف.فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلانا أصليا.باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها.والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها،يأخذ الحياة جملة،ويأخذ الأمر جملة فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها،وكل عرفها،وكل شرائعها لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف..
فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية،فهو لا يقره بأصله الجاهلي مستندا إلى هذا الأصل.إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر اللّه وإذنه.أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية.
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على «العرف» في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو - بأمر اللّه - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة،استمدادا من سلطان الشارع - وهو اللّه - لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل.فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان..كلا..إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل.وإلا بقي على بطلانه الأصلي،لأنه لم يستمد من أمر اللّه.وهو وحده مصدر
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2374)