هذا، فشتان بين فهمكم للاستضعاف الذي صنعتم له فقهاً يعني أمراً واحداً أن تبقوا المسلمين مستضعفين إلى الأبد، وأن توجبوا لهم فقهاً عجيباً تلغون به أركان التوحيد، وعقائد الولاء والبراء، وأن يصبح المسلم قابلاً مطمئناً لسلطان الجاهلية لا يشعر بالغربة التي أرادها الشرع للمؤمنين عند الاستضعاف.
بل من عجائب استضعافكم هذا أنكم حرمتم العمل للخروج من هذا الاستضعاف، وشتمتم من بلغ مراحل خير عظيمة للوصول للتمكين وتدمير الجاهلية، فلم يعد استضعافكم حالة تكرهونها تلجئكم إلى ما تكرهون، بل أحببتموها لأنها تلاءمت مع جبنكم ومكاسبكم من مداهنة الجاهلية، ولو صار للمسلمين تمكين في بلاد فقيرة يقع عليهم ما قاله تعالى (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) )لما رحلوا إليه هرباً من الاستضعاف الذي يزعمونه، بل ربما لو كان الواحد من هؤلاء في بلاد التمكين لرحل إلى بلاد الاستضعاف التي يحب فيها ما يجدون من نعيم وشهوة.
لقد آمن الفاروق أن طريق التمكين ليس بتغيير الفقه ليتلاءم مع الواقع، ولكن طريق التمكين أن يسعى للقوى التي تغير هذا الواقع وتصارعه من داخله، فيقول: لو بلغنا ثلاثمئة رجل لحاربناكم فإما أن تكون مكة لنا أو تكون لكم.
فهذا فقه التمكين، لا قول الجاهلين:"بأننا جزء من الآخر، ومكة لنا ولهم جميعاً، يجمعنا وطن واحد، ونحتكم لدستور وقانون، ووسائلنا سليمة، فلا عنف ولا تكفير ولا الغاء، هكذا يزعمون، ويظنون أن هذا طريق الوصول بأهون الوسائل وأحكمها."
فانظروا حكمة السابقين كيف وصلت بهم، وانظروا إلى حكمة الجبناء المعاصرين كيف أودت بهم.
قال تعالى (( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) )
إما إن قول الفاروق اعلان حرب، فما المستنكر في ذلك، وهل دين الله إلا ذلك، فما من رجل سمع دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلا فهم منه أنه اعلان حرب على المخالفين من أهل المشرق والمغرب، فهذا رجل من كنده وقد سمع دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لقومه:- أنتم تحملون حرب العرب قاطبة؟
وهذا رجل من بني كعب يقول لقومه وهم في سوق عطاظ وقد قبلوا حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (( ما أعلم أحداً من أهل هذا السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به، بدأتم لتنابذ الناس، ورمتكم العرب عن قوس واحدة ) ).
ثمّ إن قصة بيعة العقبة الثانية مشهورة معلومة فإن العباس بن عبادة لما أراد أن يستوثق من الأنصام أوهم في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:- هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً اسلتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافدون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة ))