(( من المعلوم أن البشرية منذ مذهب ابن آدم الأول الذي ارتضى التضحية بنفسه دون أن يجابه القتل بالقتل قد مرت في أطوار متعددة، كلما كانت تختار القتل والعنف والفعل المادي في حل مشاكلها، لكن هذا الاختيار كان يعقد المسائل ويزيد الحقد ويدفع دوماً للثأر.
هذه البشرية ما زالت في طور الطفولة التي تتقاذف بالحجارة كالأطفال، والنبي يقول عن هذا إنه (( الخذف ) )،وقد نهى عنه وقال: إنه لا يقتل العدو ويفقأ العين، فكل ما صنعته البشرية من حروب ضد بعضها البعض لم يؤدي إلى زوال أمة، بل هي تضعف حيناً ثم لما تقوى تقوم فتنتقم من قائلها كما قال تعالى عن بني اسرائيل:- ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون )) يعني إن فرعون قد قهرهم، فهل ستقومون أنتم بقهر خصومكم عند تمكنكم؟ ووللأسف هذا الذي يقع من هذا الطفل الذي لم يتعلم أن العنف هو مذهب الضعفاء والأطفال.
الانسان لم يهتدي بعد طوال هذه السنين من الابن الأول إلى يومنا هذا أن ملامسة الشفقة والرحمة في الخصم هي التي تجعله يلقي سلاحه، فيتعانق الخصمان، وملامسة هذه الرحمة في الخصم تبدأ أول بإلقاء سلاحك أنت، ومهما قتل منك أو سجن عليك أن تصبر حتى تتفجر هذه الناحية الخفية التي طمست في الانسان فيلقي هو سلاجه كذلك.
ستدفع البشرية ثمن هذا الاختيار لكن عاقبته مضمونة، وما ستدفعه سيكون أقل بكثير ما لو جابهت سلاح خصمك بسلاح مثله.
إن المحنة ليست أن تقاتل عدوك فإن هزمك رأيت أنك في محنة فترجو أجر الصبر، بل المحنة أن تصبر بعدم مواجهة خصمك وتقبل أن تكون عبد الله المقتول لا عبد الله القاتل، وأن تذهب إلى السجن باختيارك لا لأنك هزمت ففرض خصمك السجن عليك.
يجب أن يكون السجن أحب إليك من العنف، حتى تتحول السجون إلى محاشن تربوية نقهر بها نفوسنا، ونكتشف أن أمراضنا الداخلية أشد علينا من ممارسة خصومنا ضدنا.
علينا أن نتعلم كيف نشكر خصومنا حين اكتشفنا بأعمالهم ضدنا من قتل وسجن أن نربي أنفسنا على الصبر، وسنكتشف بعد ذلك أنهم هم قد سلكوا نفس السبيل معنا.
العالم يتسع للجميع، لكن مرض الأثرة وحب القهر هو سبب الحروب، فلنكتشف أن خصمنا ليس أسوأ منّا، بل هو اليوم أقوى منا، ولو صرنا أقوياء لصنعنا صنيعه.
ملاحظة: اختير هذا المقال كأفضل مقال قصير في هذا العام لجائزة الصحافة الورقية.