هذا القول قد يكون قول الجميع من تكلم ومن سكت أي قول بعضهم باللسان، وقول بعضهم بالقلب، وقد يكون قول بعضهم ممن فيهم بقية حكمة وتعقل، لأن من أسلوب القرآن أن يتكلم عن البعض بهذه الصفة كما قال تعالى (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) )وإنما هو قول رجل واحد، وكذلك في قوله تعالى في حادثة حنين (( إذ أعجبتكم كثرتكم ) )وإنما هو البعض.
هؤلاء أدركوا صواب الخطاب فطأطؤوا رؤوسهم خجلاً من الجهل الذي ساروا عليه، والباطل الذي سلكوه، فقالوا (( لقد علمت ما هؤلاء ينظقون ) ).
هم لم يكونوا ينطقون في صورتهم أصناماً فكيف ينطقون الآن تراباً وجذاذاً؟! ولو كانوا ينطقون لكانت فيهم صفة الحياة، والحي يدافع عنه نفسه، وماداموا جذاذاً وتراباً فدل أن الأمر لم يختلف.
لقد قالوا هذه الكلمات على خجل وحياء، فهم لا يقدرون أن يواجهوا خطاب هذا الفتى، ولا أن يصرخوا به ولا أن يسكتوه.
لكن هل كانوا قبل ذلك في جهل من هذه الحقيقة؟ أبداً، هم يعلمون الأمر لكنّه استمراء الأباطيل، والعيش في كنف الأوهام يلغيان البصيرة والعقل والتدبير.
لقد كانت حجتهم الوحيدة في خطابهم مع ابراهيم قبل ذلك: (( قالوا وجدنا آياءنا لها عابدين ) )وفي سورة الشعراء (( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) ).
إن هذه الحجة ما زالت سارية في البشر منذ القدم إلى يومنا هذا كما قال تعالى (( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ).
لنترك هذه القضية الآن مع أنها تحتاج إلى بسط وشرح ومزيد بيان لكشف واقعها المعاصر اليوم.
حينها انطلق الخليل في إقامة الحجة عليهم:-
(( قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) )
انتهى الحوار وانتهت المحكمة، وآب الناكسون على رؤوسهم إلى شياطينهم، واحمرت أنوفهم، فهذا الفتى لم يعتذر، ولم يعلن أن مذنب، ولم يخفف حرارة خطابه، بل تجاوز هذا الخطاب من سب الآلة إلى سب العابدين (( أف لكم ولما تعبدون من دون الله ) )، وهو سب يرمي في وجوههم كفاحاً لا من وراء ستار ولا من خلال رسول.
في سورة الصافات كلام آخر جرى مجرى هذه الوقعة:-
(( قال أتعبدونما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) )
والذي يميل إليه القلب أن هذا الحوار في سورة الصافات هو الذي جرى أولاً، لأنه يناسب قولهم: (( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) )لأن الحديث كان يدور حول الأصنام وسؤالهم والقدر على جوابهم، ثم تحول الحديث حول نفعهم وضررهم. فلما رأى الخليل عليه السلام اصرارهم على الباطل، قال لهم ما قاله الله تعالى في سورة الأنبياء.
لم يحتمل القوم الخسارة، ولم يهتدوا بنور الحجة، بل ذهبوا إلى الإنتصار للباطل.
(( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) )