ولم يكن الشافعية أكثر تسامحا من الحنابلة، إذ عمد بعض أقطابهم في مجالسهم العلمية إلى النيل من الحنابلة وتسفيه آرائهم كأبي حامد الإسفراييني والخطيب البغدادي الذي كان «يقدح في الحنابلة ما أمكنه وله دسائس عجيبة في ذمهم» 1.
ومن مظاهر التوتر التي سادت العلاقات بين المذاهب الفقهية، كثرة عقد مجالس المناظرات بين أعيان المذاهب، بتحريض واضح من الأمراء والوزراء، بقصد إعلاء شأن بعض المذاهب، والحط من منزلة المذاهب الأخرى، مما دفع الخلص من علماء هذا العصر، إلى التأليف في قواعد المناظرة وآدابها للتخفيف من الغلواء التي كانت تسود المناظرات في هذه المجالس 2.
إن المخاشنات التي طبعت العلاقات بين بعض ممثلي المذاهب الفقهية في هذا العصر، ليست بذي بال إذا ما قورنت بالصدامات العنيفة التي وقعت بين المذاهب الكلامية السنية، وعلى الأخص في نيسابور وبغداد.
ففي نيسابور وما جاورها علا شأن الأشعرية، وأخذت تتقدم غيرها من المذاهب بعد ما كانت السيادة في عقود سابقة للمذهب الماتريدي 3. ويمكن أن يفسر هذا التقدم بكثرة أعلام الأشاعرة البارزين في تلك الديار؛ كالباقلاني وابن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي منصور البغدادي والبيهقي وأبي القاسم القشيري وإمام الحرمين، فهؤلاء الأعلام قاموا بجهود كبيرة في تخريج التلامذة على مذهب أبي الحسن الأشعري، وقاموا بالدفاع عنه، ونشره وتحصينه أمام الخصوم من المذاهب الأخرى.
لكن هذا التقدم قد مني بانتكاسة كبيرة بعد المحنة التي حلت بأشاعرة نيسابور، عند ما استطاع عميد الملك الكندري أن يوغر صدر السلطان طغرلبك
1)ابن كثير، البداية والنهاية ج 12 ص 102.
2)محمد الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي ص 323 - 325.
3)قارن: النسفي، التمهيد في أصول الدين، مقدمة المحقق ص 19.