باب قول الله:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ"
حديث:"إنكم سترون ربكم"
24 -باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
7334- حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد أو هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا .
7435 - حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي حدثنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم عيانًا .
الشرح:
هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- لبيان ثبوت رؤية الله -عز وجل- في القيامة، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. وهذه من مسائل الاعتقاد، التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة والمخالفين لهم من أهل البدع، مع أنها واضحة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، فالآيات الكريمة صريحة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وكذلك السنة المتواترة صريحة في ذلك؛ لهذا جاء عن كثير من السلف من أهل السنة إطلاق الكفر على من أنكر رؤية الله يوم القيامة، وقالوا: من أنكر الرؤية كفر. وهذا على وجه العموم، لكن الشخص المعين لا بد أن تقوم عليه الحجة.
ومن الأدلة الصريحة على رؤية المؤمنين لربهم الآية التي صَدَّر بها المؤلف ترجمة الباب، قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فإن الله -تعالى- أضاف النظر إليه، ونسب النظر إلى الوجوه، وعداه بحرف (إلى) الذي يدل على أن النظر يكون بالعين، التي تكون بالوجه إلى الرب جل جلاله. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ من النضرة والحسن والبهاء. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ من النظر بالعين وقوله -تعالى-: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ فاللقاء يكون معه نظر. وقوله -تعالى-: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ جاء تفسير المزيد بأنه النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ فالزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ استدل بها العلماء على رؤية المؤمنين لربهم قالوا: لما حجب الكفار في السخط، دل على أن المؤمنين يرون ربهم في الرضا، ولو كانوا لا يرون الله -تعالى- لتساووا مع أعداء الله في الحجب.
ومن السنة الأحاديث التي ساقها المؤلف -رحمه الله- وهي كثيرة جدًّا. ومع وضوح الأدلة على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فقد أنكرها أهل البدع كالجهمية وأَوَّلُوها بالعلم، فهي رؤية علم عندهم، مع أن الأحاديث صريحة في هذا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: ترون ربكم، كما ترون الشمس صحوًا، ليس دونها سحاب، وترون ربكم، كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته ثم قال: فإنكم ترونه كذلك فهل هناك دليل أصرح من هذا. وهل يقال: هذا رؤية علمية أم رؤية بصرية؟. نعم تأتي الرؤية بمعنى العلم القلبي، وتأتي بمعنى النظر بالبصر، وتكون بمعنى الحلم قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ هذه الآية قال بعضهم: إنها في رؤيا الحلم، ولكن المراد رؤية العيان التي رآها في الإسراء. أما رؤية الحلم الصريحة فقوله -تعالى-: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ لكن لا بد من قرينة ترجح أحد أقسام الرؤية الثلاث، وأي قرينة أعظم من قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس صحوًا، ليس من دونها سحاب) فهل يقال عن هذه رؤية علمية؟ لكن من أعمى الله بصيرته، فلا حيلة فيه.
فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الرؤية علمية، ويقولون: لا يمكن أن يرى الله؛ لأن الذي يرى لا بد أن يكون محدودًا، ولا يُرى إلا الأجسام، ولا بد أن يكون له جهة، والجهات من صفات الأجسام، فيلزم من الرؤية أن يكون في جهة، ولو كان في جهة لكان محتاجًا إلى جهة، ولكان محدودًا وجسمًا ومتحيزًا، وكل هذا لا يليق بالله.
والصواب أن نقول: إن كل هذه اللوازم باطلة، فالله -سبحانه وتعالى- في العلو.
وأما الأشاعرة فأثبتوا الرؤية، لكن لا إلى جهة، فقالوا: يرى لكن لا إلى جهة، وهذا غير معقول، فهم يقولون: نثبت الرؤية، لكن لا يرى من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من تحت، ولا عن يمين ولا عن شمال، وإذا قيل لهم: أين يرى؟ قالوا: يرى لكن لا إلى جهة، وهذا غير معقول وغير متصور، حتى أنه ضحك جمهور العقلاء من كلام الأشاعرة ؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة من الرائي، ولا بد أن يكون مقابلا له. فالقول أن هناك شيئًا يرى لا في جهة غير معقول؛ ولهذا تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: أنتم مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إما أن تثبتوا الرؤية، فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، الذين يسمونهم مجسمة، وإما أن تنفوا الرؤية، فتكونوا إخوانًا لنا.
قوله: (فنظر إلى القمر ليلة البدر) وفي لفظ: (ليلة أربع عشرة) : والقمر يكون بدرًا مستديرًا كاملا ليلة أربع عشرة، ويكون واضحًا جدًّا، ويكون في كبد السماء، كل يراه إلا الذي لا يبصر بخلاف القمر في أوله، أو آخره، فيكون ناقصًا.
قوله: إنكم سترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر هذا تشبيه للرؤية، وليس تشبيهًا له -تعالى- بالقمر، فهو تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي، فالله -تعالى- لا يشابهه أحد من خلقه، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ومعنى الحديث: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة، لا لبس فيها، كما أنكم ترون القمر الذي فوق رءوسكم رؤية واضحة لا لبس فيها.
قوله: (لا تضامون) : فيها أوجه: (لا تضامون) : بفتح التاء وضم وتخفيف الميم، وروي: (لا تضامون) : بفتح التاء وتخفيف الميم، ورُوي: (لا تضامون) : بضم التاء وتخفيف الميم، ورُوي: (لا تضامون) : بضم التاء وتشديد الميم، والمعنى لا يصيبكم ضيم، ولا تعب، ولا مشقة في رؤيته. ومن المعلوم أنه لا يحصل لأحد زحام، ولا مشقة في رؤية القمر ليلة البدر، بل كل يراه من مكانه بدون مشقة، وليس كالشيء يكون في الأسفل، والناس صافون كل يريد أن ينظر إليه، هذا إذا زاحمك فيه الناس، أو من هو أطول منك، فإنك لا تراه ولا تبصره، أما إذا كان فوق رأسك فلا يضيرك أحد.
قوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس...) : المراد بالصلاة قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والصلاة قبل غروبها هي صلاة العصر، فالحديث يفيد الحث على المحافظة على هاتين الصلاتين، وأن المحافظة عليهما لهما سر في رؤية الله -عز وجل- وإن كان جميع الصلوات يجب المحافظة عليها، لكن ينبغي تخصيص هاتين الصلاتين بمزيد عناية.
فصلاة الفجر تكون في أول النهار، وفي لذة النوم والراحة، وكذلك صلاة العصر.
ولأنه من حافظ على هاتين الصلاتين، فإنه في الغالب يكون محافظًا على جميع الصلوات، ومن ضيع هاتين الصلاتين، فهو لما سواهما أضيع.
قوله: (إنكم سترون ربكم عيانا) : (عيانا) : مصدر عاين يعاين عيانًا كقاتل يقاتل قتالا، ومعنى (عيانًا) : أي: معاينة ورؤية بالأبصار، ففيه إثبات الرؤية وأنها بصرية. وفيه الرد على أهل البدع من المعتزلة والجهمية وغيرهم، الذين ينكرون الرؤية. فالمعتزلة يقولون: إن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم.. لا تضامون في رؤيته) المعنى: أن تعلموا أن لكم ربًّا لا تشكون فيه، كما لا تشكون في القمر، أنه قمر هكذا أولوا الرؤية بالعلم، وهذا من أبْطل الباطل.
أما الرؤية في الدنيا، فالصواب أنها غير واقعة. فرؤية الله -تعالى- في الدنيا ليست مستحيلة عقلا، لكنها غير واقعة شرعًا، لأن أهل الدنيا لا يستطيعون، أن يثبتوا لرؤية الله عز وجل، فموسى -عليه السلام- كليم الرحمن لما سأل الرؤية بين الله -تعالى- له بأنه لا يستطيع تحمل ذلك رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فالجبل لم يثبت لرؤية الله -عز وجل- بل تدكدك، فصار دكا وصعق موسى فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يراك أحد في الدنيا إلا تدهده. أما الرؤية في الآخرة فجائزة عقلا، وواقعة شرعًا. والناس ينشئون تنشئة قوية، يتحملون فيها رؤية الله -عز وجل- قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ .
وهذا متفق عليه أنه لم ير الله أحد في الدنيا إلا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - ففيه خلاف بين العلماء على قولين:
1 -قال بعض أهل العلم: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج.
2 -القول الثاني: وهو قول الجمهور: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه ليلة المعراج، وهذا هو الصواب، أن الله -تعالى- كلمه من دون واسطة لكن لم يره؛ ولهذا قالت عائشة لما قال لها مسروق (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قَفَّ شَعَرِي مما قلت، من حدثك أن محمدًا رأى ربه، فقد كذب) . ومما يدل على صحة هذا القول، قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ والرسول -صلى الله عليه وسلم - بشر، ومن استثناه فعليه الدليل، وليس هناك دليل يدل على استثنائه، وكذلك في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام حجابه النور -وفي لفظ النار- لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وهذا عام يشمل النبي -صلى الله عليه وسلم - لأنه من خلق الله تعالى. ولما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه أي: أن النور حجاب بيني وبينه، يمنعني من رؤيته. وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.
أما رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم - لربه في المنام فثابتة؛ لذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن جميع الطوائف أثبتوها إلا الجهمية فمن شدة إنكارهم لها، أنكروا رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم - لربه في المنام.
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن من أثبت الرؤية في الدنيا من السلف أراد الرؤية القلبية، ومن منعها أراد الرؤية البصرية، وبهذا تجتمع الأدلة.
فائدة:
قوله: (نور أنى أراه) : (أنى) اسم استفهام واستبعاد، والمعنى كيف أراه، والنور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي لفظ: (رأيت نورًا) . جاء في آثار ذكرها الخلال أن الله -تعالى- احتجب بحجب كثيرة.
وهذا النور، وهو الحجاب الذي منع نبينا من رؤية ربه، مخلوق وهو غير النور الذي هو صفة من صفات الله -عز وجل-، فصفات الله غير مخلوقة.
فائدة:
الجائز عقلا هو الذي يمكن وقوعه، لكن هناك مانع، والمستحيل هو الذي لا يمكن، ولا يتصور العقل وقوعه.