باب"وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"
حديث:"كان الله ولم يكن شيء قبله"
22 -باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
قال أبو العالية اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارتفع فسواهن خلقهن وقال مجاهد استوى علا على العرش، وقال ابن عباس (المجيد) : الكريم و (الودود) : الحبيب يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد.
7418 - حدثنا عبدان قال: أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين؛ ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك، فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب ينقطع دونها، وأيم الله، لوددت أنها قد ذهبت، ولم أقم .
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف -رحمه الله- إثبات صفة الاستواء على العرش، وإثبات العرش، وأنه مخلوق عظيم وصف بالعظمة، ووصف بالكرم، وهو سقف المخلوقات، وهو أعظمها وأوسعها وأعلاها وأرفعها، وهو أول المخلوقات، والله -تعالى- مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته.
والاستواء من الصفات الفعلية، وكان بعد خلق السماوات والأرض، فالله -تعالى- خلق العرش، ثم بعد ذلك خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش، بعد خلق السماوات والأرض استواء يليق بجلاله وعظمته، كما بين الله ذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ و (ثم) : للترتيب والتراخي.
فدل على أن الاستواء من الصفات الفعلية، فتارة كان مستويًا على العرش، وتارة لم يكن مستويًا عليه.
والاستواء على العرش علو خاص، وهو من الصفات الفعلية، بخلاف العلو، فإنه من الصفات الذاتية الملازمة للرب، فالرب لم يزل قط، ولا يزال عاليًا على مخلوقاته، فهو فوق المخلوقات سبحانه.
والمؤلف -رحمه الله- صدَّر الترجمة بهاتين الآيتين: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ؛ ليبين أن العرش مربوب، وكل مربوب، فهو مخلوق، فالعرش مع سعته وعظمه وكونه أكبر المخلوقات، فهو مربوب مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والله استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، وهو -سبحانه- ليس بحاجة إلى العرش ولا إلى غيره، فهو -سبحانه- الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ .
وصفة الاستواء، وصفة العلو والرؤية، كلها من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وغيرهم، فالذين يثبتون الاستواء والعلو والرؤية هم أهل السنة ومن نفاها فهو من أهل البدع، فأراد الإمام البخاري -رحمه الله- أن يرد على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ممن ينكر الاستواء.
والاستواء معناه معلوم في اللغة العربية -كما ذكر الإمام البخاري هنا: والسلف لهم عبارات أربع في معنى الاستواء: (صعد، وعلا، وارتفع، واستقر) . هذا معناه اللغوي، وعبارات المفسرين في تفسير الاستواء تدور على هذه الكلمات الأربع. كما قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم) : أي معلوم معناه في اللغة العربية، فمذهب أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى- مستوٍ على عرشه بهذه المعاني الأربع، استواء يليق بجلاله وعظمته ولا يكيف، فكيفية الاستواء لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- كما أنه لا يعلم كيفية سمعه، وكيفية بصره، وكيفية غضبه ورضاه وقدرته إلا هو سبحانه، فالكيفية منفية؛ لذلك قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) وفي رواية أنه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وروي هذا عن ربيعة شيخ الإمام مالك وروي كذلك عن أم سلمة رضي الله عنها.
وهذه قاعدة في جميع صفات الله -عز وجل- فالسمع -مثلا- معلوم نعرف معناه في اللغة العربية، وأن السمع ضد الصمم والبصر ضد العمى، لكن لا نعلم كيفية سمعه ولا كيفية بصره لك قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ العرش والماء مخلوقان -أولا- قبل خلق السماوات والأرض، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ .
ووصف الله -تعالى- نفسه أنه: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وتمدح الرب بأنه ذو العرش كما قال سبحانه: إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ووصف العرش أنه كالقبة على العالم، ووصف بأن له قوائم. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش .
ووصف بأن المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء في ذلك الوقت. ووصف العرش بأنه سقف الفردوس الذي هو أعلى الجنة ووسط الجنة.
قوله: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أي ارتفع. هذا هو المعنى اللغوي للاستواء.
قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ قرئت (المجيد) : بضم الدال، وعلى هذا تكون صفة لله تعالى، وقرئت"المجيدِ"بكسر الدال، وعلى هذا فتكون صفة للعرش. والجهمية يقولون: ليس هناك عرش، بل هو معنوي وليس حسيًّا، ويقولون في قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أي الملك، أي: استوى على الملك. وقولهم هذا باطل. بل هو أي: العرش: سرير عظيم ذو قوائم تحمله الملائكة، مقبب وهو سقف المخلوقات وأعظمها وأعلاها، فهو جسم، بمعنى أن له ذاتًا ليس معنويًّا، بل هو حسي.
قوله: الودود: الحبيب. هذا استطراد من المؤلف حيث فسر الآية التي قبلها وهي قوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أي الحبيب المتودد لعباده.
قوله: إنك حميد مجيد كما في التشهد، وهما اسمان من أسماء الله، و (المجيد) : كثير الصفات.
قوله: ( اقبلوا البشرى يا بني تميم....) إلخ. فيه أن بني تميم استعجلوا، فأراد -صلى الله عليه وسلم - أن يبشرهم بالخير، فاستعجلوا، فكأنهم أرادوا شيئا من الدنيا؛ فلذلك غضب النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما جاء أهل اليمن قال: اقبلوا البشرى بعد إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين؛ ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان...: أي: يسألوه عن أول هذا الأمر المشاهد من المخلوقات كالسماوات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية: (كان الله ولم يكن شيء معه) وفي لفظ: كان الله ولم يكن شيء غيره
وفيه إثبات وجود الله، وأن الله -سبحانه- هو الأول وليس قبله شيء. كما قال تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فسر النبي -صلى الله عليه وسلم - هذه الأسماء الأربعة في حديث الاستفتاح في قوله: اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء فقوله: الظاهر، فيه إثبات العلو، والباطن، الذي لا يحجبه شيء من خلقه.
قوله: (وكتب في الذكر كل شيء) : الذكر هو اللوح المحفوظ، كتب فيه كل شيء. ففيه إثبات الكتابة لله -عز وجل- وأنها من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم كتب الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء إذًا المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي حين كتابة المقادير كان العرش على الماء، فالعرش والماء مخلوقان قبل كتابة المقادير.
وهذا من الأدلة على أن العرش مخلوق قبل القلم، والمسألة فيها قولان لأهل العلم في أول المخلوقات، هل هو العرش أو القلم؟ حكاها ابن القيم في النونية فقال:
والناس مختلفون في القلم الذي
كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أم هو بعده
قولان عند أبي العلا الهمدانِي
والحق أن العرش كان قبلُ لأنه
قبل الكتابة كان ذا أركان
فالصواب أن العرش مخلوق -أولا- قبل القلم، كما في حديث الباب، وفي حديث آخر: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء وفي لفظ آخر: فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة فكتابة المقادير كانت عند أول خلق القلم، أي: قال له الله: اكتب عند أول خلقه، فالأولية مقيدة بالكتابة وهذا أصح القولين. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أفاد أنه عند كتابة المقادير، كان عرشه على الماء، فالعرش والماء موجودان أولا.
قوله: (ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك، فقد ذهبت... لوددت أنها ذهبت، ولم أقم) : أي: ود عمران -رضي الله عنه- أنه جلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم - حتى يستمع للعلم، ويستفيد، ولو ذهبت الناقة.
فائدة:
المراد بأهل اليمن كل من كان على يمين الكعبة يسمى يمن، وليس المراد به الحدود الجغرافية المعروفة الآن، فغامد وزهران وتهامة كلها تدخل في اليمن