فهرس الكتاب
الصفحة 235 من 363

نذراً، بل كان يتجر ويأكل من كسبه، ولما وَلِيَ الناس واشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له، لم يأكل من مال مخلوق.

وأبو بكر لم يكن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يعطيه شيئاً من الدنيا يخصه به، بل كان في المغازي كواحد من الناس، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين. وقد استعمله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وما عُرف أنه أعطاه عمالة، وقد أعطى عمر عمالة وأعطى عليّاً من الفيء، وكان يعطي المؤلّفة قلوبهم من الطلقاء وأهل نجد، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يعطيهم، كما فعل في غنائم حُنين وغيرها، ويقول:"إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي. أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل رجالاً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير" [1] .

ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه، فقالوا: يا رسول الله أما ذوو الرأي منّا فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:"فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به"قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال:"فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض"قالوا: سنصبر" [2] ."

وقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21] استثناء منقطع. والمعنى: لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة.

وهذا واجب لكل أحد على كل أحد، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة، فيكون عطاؤه خالصاً لوجه ربه الأعلى، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن

(1) الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ - عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه في: البخاري 2/ 10 - 11 (كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد) ، 9/ 156 (كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعاً ... ) ، المسند (ط. الحلبي) 5/ 69.

(2) الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في: البخاري 4/ 94 (كتاب فرض الخمس باب ما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يعطي المؤلفة قلوبهم ... ) ، مسلم 2/ 733 - 734 (كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ... ) ، المسند (ط. الحلبي) 3/ 165 - 166، 275.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام