وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود:"امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال لأبي بكر: لولا يَدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك" [1] .
وما عُرف قط أن أحداً كانت له يدٌ على أبي بكر في الدنيا، لا قبل الإسلام ولا بعده، فهو أحق الصحابة: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} فكان أحق الناس بالدخول في الآية.
وأما عليّ رضي الله عنه فكان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عليه نعمة دنيوية. وفي المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يَسْقُط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. ويقول: إن خليلي أمرين أن لا أسال الناس شيئاً [2] .
وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر، قال عمر:"أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:"ما أبقيت لأهلك"؟ فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال:"ما أبقيت لأهلك"؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً".
فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله، ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد: لا صدقةً ولا صلةً ولا
(1) الحديث عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه في: البخاري: 3/ 193 - 198 (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط) وهذه العبارات في ص 194، المسند (ط. الحلبي) 4/ 323 - 326، 328 - 331. وقال ابن حجر في"فتح الباري"5/ 340:"قوله: امصص بظر اللات. زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري - وهي - أي اللات - طاغيته التي يعبد أي طاغية عروة. وقوله: امصص، بألف وصل ومهملتين، الأولى مفتوحة، بصيغة الأمر. وحكى ابن التين عن رواية القابسي: بضم الصادر الأولى، وخطّاها، والبظر: بفتح الموحّدة وسكون المعجمة: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. واللات: اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعيدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سبّ عروة بإقامة من كان يُعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدامنه ما يستحق به ذلك".
(2) الحديث بمعناه في المسند (ط. المعارف) 1/ 180 - 181 (رقم 65) عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق، قال: فيضرب بذراع ناقته فينيخها، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حبيبي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً. قال المحقق رحمه الله:"إسناده ضعيف لانقطاعه". وجاءت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة فيها أمر من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، انظر: مسلم 2/ 721 (كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس) ، المسند (ط. الحلبي) 5/ 181.