مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعاً فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن، فكيف يقول الله لهما: أيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
ثم إنه كان الله قضى بأن عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه، وإن قضاه لواحد وأراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول، أو يؤثر به أحدهما الآخر، وهما راضيان بذلك، فلا كلام. وأما إن كان يكرهان ذلك، فكيف يليق بحكمة الله ورحمته أن يحرِّش بينهما، ويلقي بينهما العداوة؟ ولو كان ذلك حقّاً - تعالى الله عن ذلك - ثم هذا القدر لو وقع مع أنه باطل، فكيف تأخّر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة؟ وإنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما.
الخامس: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يؤاخ عليّاً ولا غيره، بل كل ما رُوي في هذا كذب. وحديث المؤاخاة الذي يُروى في ذلك - مع ضعفه وبطلانه - إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي [1] فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين.
وأيضاً فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
السادس: أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات؛ فإن الله يحفظ من شاء من خلقه بدون هذا. وإنما رُوي هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصديقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
السابع: أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته. وقد قيل: إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "ربح البيع أبا يحيى". وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد [2] .
وهذا ممكن؛ فإن صهيباً هاجر من مكة إلى المدينة. قال ابن جرير [3] :"اختلف [4] أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه، ومن عُني بها. فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعُني بها المجاهدون في سبيل الله". وذكر بإسناده هذا القول [5] "وعن قتادة قال: وقال بعضهم: نزلت في قومٍ بأعيانهم" [6] .
وروي عن"القاسم قال: حدثنا الحسين، حدثنا حجّاج [7] ، حدثنا ابن جريح [8] ، عن عكرمة [9] قال: نزلت في صهيب وأبي ذر جندب [10] ، أخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما رجع مهاجراً عرضوا له، وكانوا بمر الظهران فانفلت أيضاً حتى قدم عليه [11] ، وأما صهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجراً فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان [12] ، فخرج له مما بقي من ماله فخلّى [13] "
(1) الترمذي 5/ 300 (كتاب المناقب، مناقب علي بن أبي طالب، باب 85) ونصه: عن ابن عمر قال: آخى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين أصحابه، فجاء عليٌّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد: فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:"أنت أخي في الدنيا والآخرة". قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب وفيه عن زين بن أبي أوفى". وذكر الألباني الحديث في"ضعيف الجامع الصغير"2/ 14 وذكر السيوطي:"ت (الترمذي) ، ك (الحاكم) عن ابن عمر"وقال الألباني:"ضعيف جداً". وذكره التبريزي في"مشكاة المصابيح"3/ 243 - 244.
(2) الحديث في المستدرك للحاكم 3/ 398 وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ونسب الطبري في تفسيره هذا الكلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال إن الآية نزلت في صهيب، وكذا قال ابن كثير في تفسيره، ولكنه قال بعد ذلك: قال ابن مردويه وساق بسنده - وذكر خبر هجرة صهيب رضي الله عنه إلى أن قال: حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال:"ربح صهيب، ربح صهيب"مرتين. وانظر:"زاد المسير"لابن الجوزي.
(3) في تفسيره (ط. المعارف) 4/ 247 - 248.
(4) تفسير الطبري: ثم اختلف.
(5) انظر (4/ 247) .
(6) تفسير الطبري: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
(7) تفسير الطبري: حدثني حجاج.
(8) تفسير الطبري: عن ابن جريج.
(9) بعد"عكرمة"أورد الطبري الآية.
(10) تفسير الطبري: في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري جندب بن السكن.
(11) تفسير الطبري: حتى قدم على النبي عليه السلام.
(12) ذكر الأستاذ محمود محمد شاكر في تعليقه 4/ 248 (ت 1) : أن المطبوعة كانت محرفة إلى: منقذ بن عمير، وتكلم على قنفذ رضي الله عنه.
(13) تفسير الطبري: وخلّى.