فهرس الكتاب
الصفحة 219 من 363

وإذا علم الرسول أن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره، كان في دلالته للأمة على أنه أحق، مع علمه بأنهم يولُّونه، ما يغنيه عن استخلافه، لتكون الأمة هي القائمة بالواجب، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول.

وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاه هو، كان ذلك هو المصلحة للأمة.

فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عَلِمَ أن الأمة يولُّون أبا بكر، فاستغنى بذلك عن توليته، مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية، وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر. فكان ما فعله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

الوجه السادس: أن يقال: هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر، على قول من يقول: إنه استخلفه، ودلَّ على استخلافه على القول الآخر.

وقوله:"لأنه لم يعزله عن المدينة".

قلنا: هذا باطل، فإنه لَمّا رجع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم انعزل عليّ بنفس رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع، واستخلف على المدينة في حجة الوداع غيره.

أفترى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟!

ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كأنهم ظنّوا أن عليّاً مازال خليفة على المدينة حتى مات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يعلموا أن عليّاً بعد ذلك أرسله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر، ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذاً وأبا موسى.

ثم لما حج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حجة الوداع استخلف على المدينة غير عليّ، ووافاه عليّ بمكة، ونحر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مائة بدنة، نحر بيده ثُلُثَيها، ونحر عليّ ثُلُثَها.

وهذا كله معلوم عند أهل العلم، متفق عليه بينهم، وتواترت به الأخبار، كأنك تراه بعينك.

ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام