وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم واقف بعرفة، كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.
وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67] نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة، كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حُرِّمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد.
وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء، ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.
والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر، وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.
فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم.
وأيضاً فإن الله تعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فضمن له سبحانه أنه يعصمه من الناس إذا بلَّغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء، ولهذا روي أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان قبل نزول هذه الآية يُحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك [1] .
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنه في: سنن الترمذي 4/ 317 (كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة) ونصه: كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأسه من القبة، فقال لهم: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" قال الترمذي:"هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق. قال: كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُحرس، ولم يذكروا فيه عائشة". وذكر ابن كثير الحديث في تفسيره وقال إن ابن أبي حاتم رواه عن عائشة وذكر رواية الترمذي له ثم قال:"وهكذا رواه جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن أبي قدامة الأبادي عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة به". وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في"عمدة التفسير عن ابن كثير" (4/ 193) :"إسناده صحيح، وهو في الترمذي (4/ 96) ، والطبري: (76/ 122) . والحاكم (2/ 313) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بعضهم مرسلاً - عند الطبري وغيره - وأشار الترمذي إلى ذلك، وما هذه بعلة تقدح في صحة الموصول".