فهرس الكتاب
الصفحة 34 من 363

فإن كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء وأمثالهم في كتبهم، فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم. وإن كان يرد الجميع، بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث بدون المذهب إليهم. وإن قال: أقبل ما يوافق مذهبي وأردّ ما يخالفه، أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا، وكلاهما باطل، لا يجوز أن يحتج على صحة مذهب بمثل هذا، فإنه يُقال: إن كنت إنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب، فاذكر ما يدل على صحته، وإن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب، امتنع تصحيح الحديث بالمذهب، لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث، وصحة الحديث موقوفة على صحة المذهب، فيلزم الدَّور الممتنع.

وأيضاً فالمذهب: إن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق، لم يلزم صحة هذا الطريق. فإن الإنسان قد يكذب على غيره قولاً، وإن كان ذلك القول حقّاً، فكثير من الناس يروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قولاً هو حق في نفسه، لكن لم يقله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا يلزم من كون الشيء صدقاً في نفسه أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله، وإن كنت إنما عرفتَ صحته بهذا الطريق، امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته، لإفضائه إلى الدَّور.

فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب، سواء كان المذهب معلوم الصحة، أو غير معلوم الصحة.

وأيضاً فكل من له أدنى علم وإنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق وكذب، وأن الناس كذبوا في المثالب والمناقب، كما كذبوا في غير ذلك، وكذبوا فيما يوافقه ويخالفه.

ونحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل عليّ، وليس في أهل الأهواء أكثر كذباً من الرافضة، بخلاف غيرهم، فإن الخوارج لا يكادون يكذبون، بل هم من أصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم.

وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون به بمجرد موافقة ما يعتقدون، بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته وأصحابه، فيردونها لعلمهم بأنها كذب، ويقبلون أحاديث كثيرة لصحتها، وإن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه: إما لاعتقادهم أنها منسوخة، أو لها تفسير لا يخالفونه. ونحو ذلك.

فالأصل في النقل أن يُرجع فيه إلى أئمة النقل وعلمائه، ومن يشركهم في علمهم عَلِمَ ما يعلمون، وأن يُستدل على الصحة والضعف بدليل منفصل عن الرواية، فلابد من هذا وهذا.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام