إلى غيره.
وإذا تبين هذا، فهؤلاء الرافضة رتّبوا جهلاً على جهل، فصاروا في ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} معناه: أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتّبعوه هم عليّ بن أبي طالب.
وجهلهم في هذا أظهر من جهلهم في الأول؛ فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس، وأما هذا فلا يخفى على عاقل، فإن عليّاً لم يكن وحده من الخلق كافياً لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو لم يكن معه إلا عليّ لما أقام دينه. وهذا عليٌّ لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض، بل لَمّا حاربه معاوية مع أهل الشام، كان معاوية مقاوماً له أو مستظهراً، سواء كان ذلك بقوة قتالٍ، أو قوة مكرٍ واحتيال، فالحرب خدعة:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحل الثاني
فإذا هم اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان [1]
فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتّباع أكثر أهل الأرض له، فكيف يغني عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وأهل الأرض كلهم أعداؤه؟!.
وإذا قيل: إن عليّاً إنما لم يغلب معاوية ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
قيل: فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه، فكيف يطيعه الكفّار الذين يكفرون بنبيه وبه؟!.
وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين، لفرط جهلهم وظلمهم: يجعلون عليّاً أكمل الناس قدرة وشجاعة، حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول، وأن الرسول كان محتاجاً إليه. ويقولون مثل هذا الكفر، إذ يجعلونه شريكاً لله في إقامة دين محمد، ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهر الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجاً.
ومن المعلوم قطعاً أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه، فمن كان مشاركاً لله في إقامة دين محمد، حتى قهر الكفّار وأسلم الناس، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه، هم أقل من الكفّار الموجودين عند بعثة الرسول، وأقل منهم شوكة، وأقرب إلى الحق منهم؟!.
فإن الكفّار حين بَعَث الله محمداً كانوا أكثر ممن نازع عليّاً وأبعد عن الحق، فإن أهل الحجاز والشام واليمن ومصر والعراق وخراسان والمغرب كلهم كانوا كفّاراً، ما بين مشرك وكتابيّ ومجوسيّ وصابئ، ولما مات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام، ولما قُتل عثمان كان الإسلام قد ظهر في الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب.
فكان أعداء الحق عند موت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أقل منهم وأضعف، وأقل عداوة منهم له عند مبعثه، وكذلك كانوا عند مقتل عثمان أقل منهم وأضعف، وأقل عداوة منهم له حين بُعث محمد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه عليّ، هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فمن كذَّب بالحق الذي بُعث به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وقاتله عليه، كذَّب بما قاتل عليه عليّ من ذلك.
فإذا كان عليٌّ في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل، فكيف يكون حاله حين المبعث، وهو أضعف وأعجز وأعداء الحق أعظم وأكثر وأشد عداوة؟!.
ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى: ادّعوا في المسيح الإلهية، وأنه رب كل شيء ومليكه، وعلى كل شيء قدير. ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه، وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه، فلا أفلحوا بدعوى تلك القدرة القاهرة ولا بإثبات هذه الذلة التامة.
وإن قالوا: كان هذا برضاه.
قيل: فالرب إنما يرضى بأن يُطاع لا بأن يعصى. فإن كان قتله وصلبه برضاه، كان ذلك عبادة وطاعة لله، فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين لله مطيعين في ذلك، فيُمدحون على ذلك لا يُذمّون وهذا من أعظم الجهل والكفر.
وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم، تجدهم في غابة الدعوى وفي غاية العجز. كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح:"ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذّاب، وفقير مختال"وفي لفظ:"عائل مزهو"وفي لفظ:"وعائل مستكبر" [2] وهذا معنى
(1) البيتان للمتنبي في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند منصرفه من بلاد الروم سنة 345. انظر: شرح ديوان المتنبي (4/ 307) وضع الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت.
(2) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 3/ 178 (كتاب الشهادات، باب اليمين بعد العصر) .
والحديث أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً في: البخاري 3/ 110 - 111 (كتاب الشرب والمساقاة، باب إثم من منع ابن السبيل من الماء) ، 9/ 79 (كتاب الأحكام، باب من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا) ، مسلم 1/ 103 (كتاب الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الأزار والمنّ بالعطية ... ) ، سنن النسائي 7/ 217 كتاب البيوع، باب الحلف الواجب للخديعة في البيع)، المسند (ط. المعارف) 13/ 180.