فهرس الكتاب
الصفحة 123 من 363

صادقاً، بل إما أن يصدقها وإما أن يعرض عنها.

وهذا موجود في عامة أهل الأهواء: تجد كثيراً منهم صادقاً فيما ينقله، لكن ما ينقله عن طائفته يعرض عنه، فلا يدخل هذا في المدح، بل في الذم، لأنه لم يصدِّق بالحق الذي جاءه.

والله قد ذم الكاذب والمكذِّب بالحق، لقوله في غير آية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنبكوت: 68] وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] .

ولهذا لما كان مما وصف الله به الأنبياء، الذين هم أحق الناس بهذه الصفة، أن كلاًّ منهم يجيء بالصدق فلا يكذب، فكل منهم صادق في نفسه مصدِّق لغيره.

ولما كان قوله: (والذي) صنفا من الأصناف، لا يُقصد به واحد بعينه، أعاد الضمير بصيغة الجمع فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] .

وأنت تجد كثيراً من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقاً: إما تكذيب نظيره، وإما تكذيب من ليس من طائفته.

ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب، ولهذا قرنه بالكاذب على الله، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32] فكلاهما كاذب: هذا كاذب فيما يخبر به عن الله، وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله.

والنصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله، واليهود يكثر فيهم المكذِّبون بالحق. وهو سبحانه ذكر المكذِّب بالصدق نوعاً ثانياً، لأنه أولاً لم يذكر جميع أنواع الكذب، بل ذكر من كذب على الله. وأن إذا تدبرت هذا، وعلمت أن كل واحد من الكذب على الله والتكذيب بالصدق مذموم، وأن المدح لا يستحقه إلا من كان آتياً بالصدق مصدِّقاً للصدق، علمت أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم.

وإذا تأملت هذا، تبين لك أن كثيراً من الشر - أو أكثره - يقع من أحد هذين، فتجد إحدى الطائفتين، أو الرجلين من الناس، لا يكذب فيما يخبر من العلم، لكن لا يقبل ما تأتي به الطائفة الأخرى، فربما جمع بين الكذب على الله والتكذيب بالصدق.

وهذا إن كان يوجد في عامة الطوائف شيء منه فليس في الطوائف أدخل في ذلك من الرافضة؛ فإنها أعظم الطوائف كذباً على الله، وعلى رسوله، وعلى الصحابة وعلى ذوي

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام