دمُه بأمان ولا بعهد، كما لو أمَّن المسلمُ مَن وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل زِناه أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الاسلام ونحو ذلك، ولا يجوز أن يُعقد له عقد عهدٍ سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حدٌ من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً [1] ، قلت: وهذه القصة من الوضوح بمكان وإنما عرضنا بعض هذه الوجوه لتحرير صفات المجرم الساب وليُعلم تناول الحكم من هذه صفته ممن قد يشتبه على البعض أن له عصمة أو أمان يقيه القتل، والله الموفق.
8.عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمَّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينُ عليه، وكان في حصنٍ له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلقٌ ومتلطفٌ للبوّاب لعلّي أن أدخل. فأقبلَ حتى دنا من الباب، ثم تقنع [2] بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلقَ الباب ثم علّق الأغاليق [3] على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِه صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت عليَّ مِن داخل، قلت: إنِ القوم نُذِرُوا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، فقلت: يا أبا رافع! قال: مَن هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكها قط" [4] ، وفي هذا الحديث الصحيح جملة نافعة من الفوائد جمعها الحافظ ابن حجر ولمعظمها تعلق بمسألتنا مع دخول مسألتنا في جملة هذه الفوائد حيث قال رحمه الله:"وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرّ، وقتلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده - يعني بمقاتلته - أو ماله - يعني بدعم من يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لسانه - يعني بالسب والأذى والتحريض ونحوه، وجواز التجسيس على أهل الحرب، وتطلُّب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرُّض القليل من المسلمين للكثير من المشركين، حيث أرسل سرية من نفر يسير إلى حصن من حصون الكفار، والحكم"
(1) الصارم المسلول - 2/ 182
(2) تقنع: أي تغطى
(3) الأغاليق: المفاتيح
(4) صحيح البخاري - 4/ 1482 - 1483