قال الله تعالى:"إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتُعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً" [1] ، فضرب الله تعالى حول رسوله صلى الله عليه وسلم سياجاً منيعاً من الحفظ والصون، وجعل لشخصه الكريم حريماً [2] يصون به جنابَه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره أن هذه المنزلة فوق منزلة المحبة؛ لأنه ليس كل مُحَبٍّ معظَّماً، فالوالد يحبُ ولده ولكن حبَّه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه، والولد محبُّ والده يجمع له بين التكريم والتعظيم، فعُلم أن التعظيم رتبةٌ فوق المحبة، ولئن كان الداعي إلى المحبة ما يفيض عن المحبوب على المحِب من الخيرات، فإن الداعي إلى التعظيم ما يجب للمُعَظَّم في نفسه من الصفات العلية. [3] ثم قال رحمه الله بعد أن بيَّن أن التعزير هو التعظيم،:"فأبان أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون مُعزَّزاً موَّقراً مهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يعاملُ الأكفاء بعضهم بعضاً [4] ، قلت: وسيأتي تفصيل ذلك قريباً بإذن الله."
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معقد بيان ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خصوصية التعزير والتوقير والتشريف:"إن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدةً على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدةً على مجرد التصديق به سبحانه، وحرَّم سبحانه لحرمة رسوله مما يُباح أن يُفعل مع غيره أموراً زائدةً على مجرد التكذيب بنبوته" [5] ، قلت: وإن معرفة وفهم هذه الواجبات التي فرضها الله تعالى صوناً لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرٌ لازمٌ لكل مؤمن، ليعلم أن أحداً من المخلوقين ليس له مكانته صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن تعدياً على جنابه صلى الله عليه وسلم ليس كاعتداء على أحد، والله المستعان.
ولنشرع في بيان جملةٍ من التشريفات التي وضعها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يستيقن المؤمن ويتعرف الجاهل على قدر هذا النبي بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وحتى يُعذر كل امرئ تسول له نفسه الخبيثة التطاول على مقام النبوة أو انتهاك حريمها، ألا فليعلم أن الله تعالى هو الذي وضع وأوجب هذه التشريفات لنبيه العظيم وأنه تعالى هو المتكفل
(1) سورة الفتح - آية 8 - 9
(2) الحريم: الأرض الممنوعة تكون حماية لما حولها من الملك
(3) شعب الإيمان - البيهقي - 2/ 193، بتصرف
(4) شعب الإيمان - البيهقي- 2/ 194. والمقصود بالأكفاء الذين هم متكافئون في الرتبة فهؤلاء يسترسلون في الحديث مع بعض وينبسط أحدهم في المجلس مع من يراه مكافئاً له، وهذا ما لا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) الصارم المسلول - 3/ 801