فهرس الكتاب
الصفحة 17 من 83

بالانتقام ممن تطاول عليه صلى الله عليه وسلم، فلقد قال تعالى:"إنا كفيناك المستهزئين" [1] ، فحسبُ نبينا صلى الله عليه وسلم كفاية الله تعالى له عدوه وشانئه ومبغضه، والله المستعان.

أولاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله"[2]:

لقد صان الله تعالى جناب نبيه صلى الله عليه وسلم فمنع أحداً من أن يُدلي بقول أو رأي أو مشورة أو فعل قبل أن يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، وهذه الآية الكريمة أصلٌ في هذا الباب، بل هو أصلٌ من أصول الدين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشرِّع، ومن تقدَّمه بقول أو رأي فقد شرَّع معه، وكأن فاعل ذلك يقول بلسان حاله: لا حاجة لي ببعثة اللهِ تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبلغ أحكامه ويشرع لأهل ملته ويسن طريق شريعته، وهذا غاية البطلان وطريق الخسران. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية:"لا تعجلوا بقضاء أمرٍ في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، مَحكيٌ عن العرب: فلانٌ يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه" [3] . وقال البخاري رحمه الله:"وقال مجاهد (لا تقدموا) :لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه" [4] ، وفي سبب نزول هذه الآية أخرج البخاري رحمه الله عن ابن أبي مليكة:"أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى - أو إلا- خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدَي الله ورسوله"حتى انقضت الآية" [5] ، فهذان خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم يسبقون بين يديه بمشورة في أمر من الأمور فينزل القرآن ناهياً زاجراً عن ذلك، مخوِّفاً مَن عاد إليه بحبوط العمل، قال القاضي عياض رحمه الله:"ونهى عن التقدم بين يديه بالقول، وسوء الأدب بسبقه بالكلام" [6] ، قلت: ولئن كان السبق بين يديه بالكلام منهياً عنه فالنهي عن سبقه صلى الله عليه وسلم بالتصرف والفعل من باب أَولى.

فهذا أول سورٍ ضربه الله تعالى حول حمى النبوة، إجلالاً وتعظيماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا السور حراماً حتى على أقرب صحابته وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم. ولا يفوت محلُّ هذا الأمر بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل النهي عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم يكون بعدم تقديم رأي أو اجتهاد على السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام المروزي رحمه الله:"فنهى الله المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم أو يجهروا له"

(1) سورة الحجر- آية 95

(2) سورة الحجرات - آية 1

(3) تفسير الطبري - 26/ 116

(4) صحيح البخاري - 4/ 1832

(5) صحيح البخاري - 4/ 1834

(6) الشفا - القاضي عياض - 2/ 284

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام