دوراناً في فلك المصالح، وإذا كان الأمر كذلك فأي محبوب أعظم من الله تعالى وأي فرع أقرب لهذه المحبة من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الدوران مع المصلحة فأي مخلوقٍ أنفع لنا بمصلحة دين أو دنيا حتى نقدم حبه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك إذاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذه المحبة أيضاً وهو أولى بلوازمها من غيره، فإذا عُلم ما تقدم فقد اجتمعت الدواعي على تقديم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أقسام المحبة، وطرح كل ما سواه من المخلوقين جانباً، وهو كذلك.
ولقد تكلم القاضي عياض رحمه الله بكلامٍ نفيس عن علامة محبته صلى الله عليه وسلم فذكر منها لزوم اتباعه وموافقته والرغبة في سنته وامتثال أمره وترك نواهيه والتأدب بأدبه في عُسره ويسره صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"ومنها بغض من أبغضَ الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته، قال الله تعالى:"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله" [1] ، وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبد الله بن عبد الله بن أُبي: لو شئت لأتيتك برأسه، يعني أباه" [2] . قلت: فلا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم معاداة مبغِضِه، وأن من ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلن ببغضه وحربه لمن أبغض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب، ونسبته إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم نسبة كاذبة، فحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدَّى بالأرواح والأولاد والأهلون والأموال والأوطان، وها هو خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه حين أراد المشركون قتله،"فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوبٌ نادوه وناشدوه: أتحب محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه، فضحكوا" [3] ، نعم إن من لا يفهم حقيقة هذا الحب يضحك لجهله، أما من أُشرب في قلبه حب محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفتدي نفسه بشوكة في قدمه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا حب محمد صلى الله عليه وسلم، فهل من محبين ...
لم يجعل الله تعالى لأحد من الخلق متابعة مستقلة منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا له، فقال سبحانه وتعالى:"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً" [4] ، ففرض الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وردَّ الناس إلى الله ورسوله - أي الكتاب والسنة - عند التنازع، ثم أكدت الآيات هذا المعنى بالتحذير من عواقب نقيضه وهو الإعراض عن طاعته صلى الله عليه وسلم وترك متابعته، وجعل الله تعالى المتابعة والانقياد والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حداً للإيمان؛ فمتى وُجد ذلك وُجد الإيمان ومتى فُقد فُقد، فقال تعالى:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت"
(1) سورة المجادلة - آية 22
(2) الشفا- القاضي عياض - 2/ 278
(3) المعجم الكبير - الطبراني - 5/ 261، وقال الهيثمي:"رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف" (مجمع الزوائد 6/ 201) ، وذكره الحافظ ابن حجر من رواية أبي الأسود عن عروة (الفتح، 7/ 384) .
(4) سورة النساء - آية 59