فهرس الكتاب
الصفحة 19 من 83

ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فقولوا يانبي الله، يا رسول الله، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يُهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يُبَجَّل وأن يُعظَّم وأن يُسَوَّد" [1] ."

فهذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه عظمته وجلالة قدره صلوات الله وسلامه عليه، وتأمل كيف منعت الشريعة من تعاطي أي سببٍ قد يؤدي إلى سوء أدب أو تصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بدون قصد، فعن حميد عن أنس قال:"نادى رجلٌ رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لم أعنِك، إنما دعوت فلاناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" [2] ، قلت: ولا شك أن المقصود هنا النهي عن نداء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مدعاة للغلط والالتباس كما حدث في سبب ورود الحديث، أو يكون مدخلاً لاستهزاء ضعاف القلوب والمنافقين بحيث ينادونه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق ثم يعتذرون بأنهم لم يقصدوه وإنما قصدوا غيره، فإن قيل: فلم لم يمنع من التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن المؤمنين قد نُهوا عن ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً فلا يرد مثل هذا المحذور، فهم منهيون عن قولهم: يا محمد، بل يقولون: يا رسول الله، يا نبي الله، وهكذا."

والحاصل هنا أن هذا سورٌ آخر ضربه الله تعالى حول حرم النبوة، فلا يتحدث أو يدخل أو ينصرف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، ومن احتاج أن يناديه أو يخاطبه التزم الأدب في ذلك فناداه بما يليق وبما لا يلتبس مع غيره، فيقول: يا رسول الله، يا نبي الله، قال أبو القاسم، فعل أبو القاسم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله مزيد احتياط واعتناء من الله عز وجل بصفيِّه وخليله وصفوة خلقه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

ثالثاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا"[3]:

إن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة كانوا لا يستطيعون كتمان ما في صدورهم من حقدٍ وحسدٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتحينون فرص التعريض به كلما استطاعوا، فنبَّه الله تعالى المؤمنين لذلك كي لا يقعوا في مثل فعل يهود، وقال سبحانه وتعالى في تحريم التعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم:"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم" [4] ، قال القاضي عياض رحمه الله:"وذلك أن اليهود كانوا يقولون: راعنا يا محمد؛ أي: أرعِنا سمعك، واسمع منا، ويُعرِّضون بالكلمة يريدون الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين"

(1) تفسير ابن كثير - 3/ 307، وفي معنى قوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) قول ثانٍ ذكره ابن كثير رحمه الله فقال:"والقول الثاني في ذلك أن المعنى في (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا" (تفسير ابن كثير - 3/ 308) ، قلت: ومناسبة هذا المعنى على القول به للأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة؛ إذ أن سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلبةٌ لسخطه ودعائه على من أساء الأدب معه، وهو دعاء مستجاب فليحذره من تسول له نفسه التطاول على جناب النبوة، والله أعلم.

(2) صحيح مسلم - 3/ 1682

(3) سورة البقرة - آية 104

(4) سورة البقرة - آية 104

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام