يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها [1] . فوجه الدلالة أن الصدِّيق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك، فعُلم أنهم - أي الصحابة - كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم" [2] . قلت: فإذا كانوا يرون هذا فيمن نكح أحد أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا مما يجوز معاملة المسلمين بعضهم بعضاً به لكن حرمه الله تعالى عليهم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة له كما تقدم، فكيف بمن سبه وآذاه وشتمه وتنقصه وطعن في عرضه ونسبه إلى الكذب أو الشر أو الفحش حاشاه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أليس القتل والتحريق لهؤلاء المجرمين بالجزاء المناسب لهم في الدنيا، ونكلهم إلى عذاب الله في الآخرة."
فهذه عشرة أحاديث وآثار ما بين صحيح وحسن يدل كل منها منفرداً على حكم ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بها مجتمعة، وكيف بها منضمة إلى ما تقدم من آياتٍ قرآنية لاتدع مجالاً لريبة أو شك إلا عند من تمكنت الريبة والشك من قلبه فهو أشبه بمريض أعضل مرضه فبات مستعصياً على الدواء، لا لعلةٍ في الدواء وإنما لفسادٍ في نفسه وخبثٍ في سريرته نسأل الله السلامة والعافية من ذلك كله. هذا مع العلم بأن السنة لا تزال طافحة بعشرات الأمثلة من جنس ما قدمنا، غير أني اقتصرت على المذكور بغية الاكتفاء بما لا مقال في ثبوته من جهة السند ولا غموض في دلالته من جهة المتن، واجتناباً للتطويل حيث وضعنا هذا الكتاب على الاختصار كما بينا. وأشير إلى أن من أراد تفصيلاً زائداً عما قدمنا بالنسبة للأحاديث أو أوجه الدلالة منها أو رد شبهات مثارة عليها فليعد إلى كتاب الصارم المسلول فإنه لم يترك شاردة ولا واردة مما ذكرنا، وهو أليق بطالب العلم الذي يهتم بوجوه الاستدلال والاستنباط ونحوها، فليرجع إليه من احتاج، والله الموفق.
لقد دل دليل الإجماع أيضاً على أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم حلال الدم لا إيمان له ولا أمان، ولئن كان الإجماع المنضبط هو إجماع عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فحسبنا به إجماعاً في مسألتنا هذه، فهم أعلم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص على حبه وأصدق في تفديته بالأرواح والأهلون والعشائر والأوطان، وفيما يلي بعض أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
1.قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له"
(1) وأخرج القصة ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 88)
(2) الصارم المسلول - 2/ 123 - 124