فهرس الكتاب
الصفحة 28 من 83

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركَتهُ القائلة وهو في وادٍ كثير العضاة [1] ، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلّق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌ قاعدٌ بين يديه فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتاً [2] قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه [3] ثم قعد فهو هذا. قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم" [4] ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ووقع في رواية بن إسحاق بعد قوله (قال: الله) : فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد. قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولَّى قال: أنت خير مني" [5] . والأحاديث في مثل هذا كثيرة، والشاهد فيها عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتجريد افتقاره لله تعالى وحده مع ما فرض على المؤمنين من نصرته، ليُعلم أن نصرة المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرفٌ لهم لا حاجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقضونها، وليُعلم أن التخاذل عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم منقصةٌ للمتخاذلين لا تضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيء وقد كفاه الله تعالى حيث قال سبحانه:"أليس الله بكافٍ عبده" [6] ، قال القاضي عياض رحمه الله:"قيل: بكافٍ محمداً صلى الله عليه وسلم أعداءه المشركين" [7] . قلت: فليُعلم إذاً أن قوله تعالى:"إلا تنصروه فقد نصره الله" [8] كما أنه خبر عن نصرة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وكفايته إياه، فإن فيه معنى الوعيد والتهديد لمن تخاذل عن نصرته صلى الله عليه وسلم، لأنه متى أُعلن بأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تمحض فسطاطان؛ أحدهما فسطاط عداوته والآخر فسطاط نصرته، فمن لم يهرع لفداء النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما يملك فقد اختار لنفسه فسطاط العداوة ولو بمجرد الصمت وما أخبثه من صمت، فلما ركن إلى أهل العداوة والتحق بفسطاطهم أصبح في عداوةٍ مع الله عز وجل لأن الله تعالى أخبر وهو أصدق القائلين أنه ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة، فتأمل هذا وارثَ لحال من اختار خذلان نبي الله صلى الله عليه وسلم وعداوة الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.

عاشراً: بابٌ جامعٌ لقوله تعالى:"واصبر لحُِكم ربِّك فإنك بأعيننا"[9]:

هذا بابٌ جامعٌ لكل ما تقدم، فإذا تأملت أدركت رعاك الله كيف أحاط الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بسياج الحفظ والمنعة، وضرب من حوله فسطاط العظمة والتوقير والإجلال، فنهى ومنع من التقدم برأيٍ أو كلامٍ بين يديه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وُجِد داعي التخاطب معه صلى الله عليه وسلم منع من مناداته باسمه ومنع من التسمي بلقبه حتى لا يلتبس النداء ويتمكن العدو الغادر من

(1) العضاة: كل شجر يعظم له شوك، والقائلة: وقت القيلولة وهي الراحة وقت العصر

(2) صلتاً: مجرداً من غمده

(3) شام السيف إذا وضعه في غمده

(4) صحيح البخاري - 4/ 1516

(5) فتح الباري - ابن حجر - 7/ 427

(6) سورة الزمر - آية 36

(7) الشفا - 1/ 232

(8) سورة التوبة - آية 40

(9) سورة الطور - آية 48

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام