فلينتبه إلى هذا الفارق حتى لا يظن ظان أن ثمة خلاف في جواز قتل الساب وإهدار دمه كما تقدم من أدلة القرآن والسنة.
أدلة تحتم قتل الساب وتعيُّن هذه العقوبة:
إن كل ما نذكره في هذا الموضع من الأدلة أو من وجوه الاستدلال على المطلوب فهو بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة في المطلب الأول، حيث إن الأدلة المتقدمة كلها تفيد الدلالة على المطلوب لمن تأملها جيداً، ونزيدها بما يلي:
1.قول الله تعالى:"قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصُركم عليهم ويَشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين. ويُذهب غَيظَ قلوبهم" [1] ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الآية فقال:"والتعذيب بأيدينا هو القتل، فيكون الناكث الطاعن مستحقاً للقتل، والسابُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكثٌ طاعنٌ كما تقدم فيستحق القتل. ولقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح دم الذين باشروا هجاءه ولم يُهدر دم الذين سمعوا الهجاء، وهذا يدل على أن موجب هدر الدم أمر زائد على مجرد الكفر وهو هنا سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى (ويشف صدور قومٍ مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم) دليلٌ على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن، وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من أثر الطعن أمرٌ مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول، ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم مِن أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماءَ بعضهم وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، فالمؤمن المسدَد لايغضب هذا الغضب إلا لله، والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه (أحدها) أن مجرد تعزيره وتأديبه بغير القتل يُذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحداً من المسلمين أو فعل نحو ذلك، فلو أذهب غيظ قلوبهم في حال شتم الرسول صلى الله عليه وسلم لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل، فلا بد أن تكون عقوبة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فوق التعزير وهذه العقوبة هي القتل، و (الثاني) أن شتمه أعظم عندهم من أن يُؤخذ بعض دمائهم، ثم لو قتل الذمي واحداً منهم لم يشف صدورهم إلا قتله، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، وإلا لم يكن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد علينا من قتل بعضنا، و (الثالث) أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء، والأصل عدمُ سببٍ آخر يحصله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا، و (الرابع) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة - وهم القوم المؤمنين- من بني بكر الذين قاتلوهم ونكثوا العهد معهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس، فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس، فدل على أن شفاء الصدور وذهاب غيظ القلوب من نكث العهد وما هو أشد منه كسَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم"
(1) سورة التوبة - آية 14 - 15