الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عملُه كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمالَ مطلقاً إلا الكفر، وهذا معروفٌ من أصول أهل السنة، نعم قد يبطلُ بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى:"لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى" [1] ولكن لا يحبط كلُّ عمل المرء بذلك، ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لايشعر، ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لِما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولِما أنَّ رفعَ الصوت قد يشتمل على أذى له أو استخفاف به وإن لم يقصد الرافعُ ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً، فيكون الأذى والاستخفاف المقصود والسب والشتم المتعمد كفراً بطريق الأَولى [2] . قلت: هذا غاية الفقه منه رحمه الله فقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المبحث النفيس مسائل من أصول الدين لا ينفك المسلم يحتاج إليها، منها أن المعاصي لا تحبط الإيمان كله وإنما ينقص بها الإيمان، وأن حبوط كامل العمل رديف الكفر، وأن كل ما دل دليل الشرع على أنه يؤدي إلى حبوط كامل العمل فهو كفر وهذا كما مثَّل وذكر كسب النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن رحمه الله أن مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم وإيذائه من متعلقات أصول الدين وأنه ليس مجرد ذنب عارض بل هو جريمة كبرى، ولكن هل من سامع أو مجيب.
10.قوله تعالى:"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذاب أليم" [3] ، ووجه الدلالة هنا أن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مفضٍ إلى الفتنة وهي الكفر، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"أمرَ مَن خالف أمرَه أن يحذر الفتنة؛ والفتنة الردة والكفر" [4] ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:"أي فليحذر وليخشَ من يخالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً (أن تصيبهم فتنة) أي في قلوبهم مِن كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعة، (أو يصيبهم عذابٌ أليم) أي في الدنيا؛ بقتلٍ أو حدٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك" [5] ، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجه الدلالة من الآية:"فإذا كان المخالف عن أمره صلى الله عليه وسلم قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ولما كان معلوماً أن إفضاءه إلى العذاب بسبب مجرد فعل المعصية، عُلِم أن إفضاءه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، وهذا كما فعل إبليس حيث استخف بحق الآمر واستكبر عنه فكفر بذلك لا لمجرد المعصية، فكيف لما هو أغلظ من ذلك الاستحفاف كالسب والشتم والانتقاص ونحوه" [6] ، قلت: فلا شك أن السب والشتم أشد إفضاءً إلى الكفر من إفضاء مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم المقترنة بالاستخفاف به صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، والله الموفق.
11.قوله تعالى:"وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ الله ولا أن تَنكِحوا أزواجَه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً" [7] ، ولقد تقدم الكلام عن هذه الآية وبيان منع معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض ما يجوز
(1) سورة البقرة - آية 264
(2) الصارم المسلول - 2/ 113 - 115، بتصرف يسير.
(3) سورة النور - آية 63
(4) الصارم المسلول - 2/ 115
(5) تفسير ابن كثير - 3/ 308
(6) الصارم المسلول - 2/ 117 بتصرف
(7) سورة الأحزاب - آية 53