فهرس الكتاب
الصفحة 77 من 83

إيمانكم" [1] ،ولم يقل: قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، فبيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بنفس هذا الخوض واللعب، وهذا واضح."

وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخَلَف أن السب بنفسه كفر استحله الساب أو لم يستحله، فالدليل على ذلك جميع ما تقدم من الدليل على كفر الساب من الآيات والأحاديث والآثار، فإنها أدلة بيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً، إذ لو كان الكفر المبيح للدم هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفير الساب وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهوراً تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء، وهذا خلاف ما تقدم من الأدلة. والحقيقة أن منشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم أنهم رأوا أن الإيمان هو مجرد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به دون الانقياد له، وظنوا أن اعتقاد صدقه صلى الله عليه وسلم لا ينافي السب والشتم بالذات، وغاب عن هؤلاء أن السب إهانة واستخفاف، وأن الانقياد للأمر إكرامٌ وإعزاز، ومُحالٌ أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، وهذا هو بعينه كفر إبليس؛ فإنه سمع أمر الله له فكان مصدقاً للخبر، ولكنه لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً، وهذا موضعٌ زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره مِن أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هُدوا لما هدي اليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قولٌ وعمل، فيصدق القلب أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقاً يوجب حالاً في القلب وينقاد لأمره ويستسلم، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين: التصديق بالخبر والانقياد للشرع، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد إنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق. ألا ترى أن مَن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً، فإنه يحتاج إلى مقامٍ ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله؛ فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: وأشهد أن محمداً رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله وانقياده لأمره، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الاقرار، ويلزم الأصل الآخر وهو الانقياد. والشاهد هنا أن هذا مما يبين أن الاستهزاء بالله ورسوله بالسب والشتم ينافي الانقياد له والطاعة منافاةً ذاتية، ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره صلى الله عليه وسلم، فإن الانقياد إجلالٌ وإكرام، والاستخفاف إهانةٌ وإذلال، وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعُلم أن الاستخفاف والاستهانة نفسها تنافي الإيمان منافاة الضد للضد" [2] ."

قلت: والحاصل أن محل هذه الشبهة عند من اختل مفهوم الإيمان لديه، وهذا يستدعي المسارعة إلى تصحيح هذا الخلل لأنه على حافة جرف خطير جداً، فالإيمان الذي هو تصديق الخبر والانقياد للشرع له آثار في الظاهر تحتم وجود بعض أنواع القول والفعل وهي التي بها ينعقد أصل الإيمان وتوجب بعض أنواع القول والفعل وهي التي يتحقق بها الإيمان

(1) سورة التوبة - آية 66

(2) الصارم المسلول - 3/ 960 - 973 ياختصار وتصرف

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام