جواب الشبهة الرابعة: لقد استقصى شيخ الإسلام هذه الشبهة الواهية والقول الشاذ وفنده أحسن ما يكون، وأنا أوجز من كلامه ما تمس الحاجة إليه بإذن الله، حيث قال رحمه الله برحمته الواسعة:
"يجب أن يُعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلةٌ منكرة وهفوةٌ عظية، وانما مرد مثل هذه الشبهة والهفوة إلى مقولة الجهمية الإناث [1] الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتضِ عملاً في القلب ولا في الجوارح. ومن المقرر المعلوم أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح كما هو مذهب الأئمة كلهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة، وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنما الغرض التنيبه على ما يخص هذه المسألة أي بيان فساد وبطلان تعليق كفر الساب على الاستحلال، وذلك من وجوه:"
(أحدها) إن هذا القول قول شاذ مأثور عن بعض المتكلمين ممن لا يُعد قوله قولاً، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل في كفر الساب بالاستحلال، بل الفتوى على أن نفس السب كفر، (الثاني) أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال، واعتقاد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب، ولكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي عُلم أن الله تعالى قد حرَّمها، فإن من فعل شيئاً من هذه المحرمات مستحلاً كفر، مع أنه لايجوز أن يُقال: مَن قذف مسلماً أو اغتابه كفر ثم يقول إنه يعني بذلك اذا استحله، فتبين أن فعل المحرَّم شيء واستحلاله شيء آخر، ولا تلازم بين الأمرين؛ فقد يفعل الحرام معتقداً تحريمه فلا يكفر، وقد يستحلّه ولا يفعله فيكفر، وقد يكون نفس الفعل كفراً ولا يحتاج إلى النظر في استحلال فاعله له كما هو حال سب النبي صلى الله عليه وسلم، (الثالث) أن اعتقاد حل السب كفرٌ سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن، وعلى هذا لا أثر للسب في التكفير وجوداً وعدماً وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من أن السب بنفسه كفر، (الرابع) يلزم من هذا القول الفاسد وهو زعم أن المكفِّر هو اعتقاد الحل أن لا يكون في السب نفسه ما يدل على أن الساب مستحلٌ فيجب أن لا يُكفَّر، لا سيما إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرام وإنما قلته غيظاً وسفهاً أو عبثاً أو لعباً، كما قال المنافقون:"إنما كنا نخوض ونلعب" [2] ، فإن قيل: لا يكونون كفاراً فهو خلاف نص القرآن، وإن قيل يكونون كفاراً فهو مناقض لزعمهم عدم وجود أثر لنفس السب إذا لم يجعل نفس السب مكفراً وهذا باطل، فلزم أن يكون نفس السب كفراً كما نص القرآن الكريم، ولهذا قال سبحانه وتعالى:"لا تعتذروا قد كفرتم بعد"
(1) هذا الوصف مبالغةٌ منه رحمه الله في الإنكار على مقولة الجهمية التي نقضوا فيها الدين وعطلوا عقيدة التوحيد فعطلوا صفات الله وأبطلوا عقيدة القدر وقالوا بالإرجاء في الإيمان وهو أن الإيمان مجرد المعرفة دون استلزام العمل وهي عقيدة فاسدة ضالة ليست من الإيمان في شيء. انظر اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية، والصواعق المرسلة على المعلطة والجهمية له أيضاً، والفرق بين الفرق للبغدادي (1/ 199) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 132) ، والرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد رحمه الله، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 86) وغيرهم.
(2) سورة التوبة - آية 65