ذلك، ولو كان المتنازَع فيه بيننا وبينهم سوء فهم مبدأ من مبادئ الإسلام، أو نسبة أمرٍ مغلوطٍ إليه لكان للحجاج والجدل بالتي هي أحسن موضع، أما وقد شتموا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما لا تتعلق به شبهة عقلية، ولا تتعلق به حرية اعتقادية، ولا تتناوله مساحات التأويل العقلي الفاسد. فإن غاية ما يتعلق به كفر الكافر استكبارٌ عن قبول الحق أو فسادٌ في فهمه، وإن غاية ما تتيحه مساحة الاختيار للمكلفين هو تصديق الشرع والانقياد له أو الجحود له والإعراض عنه، كما بيَّن الله تعالى في قوله:"وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [1] ، وهذا التخيير كما لا يخفى للتهديد، كما قال الإمام الطبري رحمه الله:"وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع بأن العرب تُخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [2] ، والحاصل أن هذه هي مساحة الاختيار للمكلف وهو اختيار تكليف يترتب عليه وعدٌ ووعيد، لا اختيار حرية ينجو المرء فيه باختياره ويسعد كائناً ما كان اختياره. فغاية ما يُقال في شأن الكافر أنه أعرض عن الشرع جهلاً أو تأويلاً أو جحوداً أو استكباراً، فالجاهل يُعلَّم، والمتأول يُفهَّم، والجاحد يُذَكّر، والمستكبر يُخوَّف، فإن زالت عوارض الكفر ففضلٌ من الله وإن لم تزُل فلا عدوان إلا على الظالمين. وليس من لازم أي واحد من العوارض السابقة إيقاع الشتم والعدوان على مُبلِّغ الرسالة صلى الله عليه وسلم حتى يُعتذر عن هذا الشتم بالكفر أو بجهالة حق المبلِّغ ومقامه وفضله صلى الله عليه وسلم، فعُلم ضرورة عقلية ما هو معلومٌ ضرورةً شرعية أن الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم جريمة مستقلة لها اتصال بجريمة الكفر من وجه، ولها انفصال من وجه آخر، وهذا الموضع هو الذي يستزل قدم بعض المخلصين أو الغيورين أو أصحاب النوايا الحسنة من المسلمين إلى مهادنة هؤلاء المجرمين بحجة الخطاب الهادئ والحوار الناجع [3] ، ولعمري إن المقام هنا مقام انفكاك في الجهة بين جريمة الشتم وجريمة الكفر، يدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل كعب بن الأشرف:"مَن لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم" [4] ، قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب:"ووجَّه إليه مَن قَتَلَهُ غيلةً دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل قتله بأذاه له، فدل على أن قتله إياه لغير الشرك، بل للأذى" [5] ، قلت: رحم الله القاضي العياض ما أفقهه، وهل الفقه إلا الوقوف عند كلام الله ورسوله، فلقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعلة القتل هنا وهي الأذى، فلم يعد هناك مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله برأي وتبرير وتفسير، وعُلم أن الشتم والأذى جريمة مستقلة عن جريمة الكفر من هذا الوجه.
ثم إن العجيب ممن يقول إن شتم هؤلاء المجرمين للنبي صلى الله عليه وسلم سببه تقصيرنا وجهلنا في التعريف به، وكيف يسب أحد شخصاً لا يعرفه؟ فمن أين لهم إذاً تحديد اسمه وصفته ونسبة دين الإسلام إليه ونشأته في جزيرة العرب ونسبة ما جاء به
(1) سورة الكهف - آية 29
(2) تفسير الطبري - 4/ 238
(3) وهذه الفئة المخلصة لا نشك في وجودها مع وقوع الزلل منها فيما ذكرنا، وتوجد مع هذه الفئة فئة أخرى مندسة بين أظهرنا هي إلى الزندقة والنفاق أقرب إليها من الإيمان لا تنفك توجد الأعذار والمبررات لأعداء الله عز وجل في اعتداءاتها السافرة على حرمات المسلمين دماءً وأموالاً وأعراضاً وبلداناً ثم هي اليوم توجد مثل هذه الأعذار لمن تناول كتاب الله تعالى وشخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالامتهان لتبرر سلوك أعداء الله تنفيذاً لمؤامرات أوليائهم من الطاغوت ولستر عوارتهم المفضوحة نتيجة تعاونهم العميل مع أعداء الله في هدم دين الله من الداخل، ولكن هيهات هيهات، إن ربك لبالمرصاد.
(4) صحيح البخاري - باب الكذب في الحرب - حديث 3031
(5) الشفا بتعريف حقوق المصطفى -2/ 433