، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرَى على أمَّتِهِ من هذا كان كراهَتُهُ لهُ وغضبهُ منهُ أعظمَ من كراهتِه لاثنينِ مسلمينِ تقاتلا على المُلكِ ولم يسبِ أحدهُما حريمَ الآخرِ ، ولا نفعَ كافراً ولا أبطلَ شيئاً من شرائعِ الإسلامِ المتواترةِ وشعائرهِ الظاهرةِ ، ثمَّ معَ هذا فالرافضةُ يعاونونَ أولئكَ الكفارَ وينصرونَهُم على المسلمينَ ، كما قد شاهدَهُ الناسُ لمَّا دخلَ هولاكو ملكُ الكفارِ التركِ الشامَ سنةَ ثمانٍ وخمسينَ وستمائةٍ، فإنَّ الرافضةَ الذينَ كانوا بالشَّامِ بالمدائنَ والعواصمَ من أهلِ حلبَ وما حولها، ومنْ أهلِ دمشقَ وما حولها ،وغيرهم كانوا من أعظمَ الناسِ أنصاراً وأعواناً على إقامةِ ملكهِ وتنفيذِ أمرهِ في زوالِ ملكِ المسلمينَ ،وهكذا يعرفُ الناسُ عامةً وخاصةً ما كانَ بالعراقِ لمَّا قدمَ هولاكو إلى العراقِ وقتلَ الخليفةَ وسفكَ فيها منَ الدماءِ مالا يُحصيهِ إلا اللهُ، فكانَ وزيرُ الخليفة ابنُ العلقميِّ، والرافضةُ همْ بطانتهُ الذينَ أعانوهُ على ذلكَ بأنواعٍ كثيرةٍ باطنةٍ وظاهرةٍ يطولُ وصفُها ، وهكذا ذُكرَ أنهمْ كانوا مع جنكزخانَ ، وقد رآهمُ المسلمونَ بسواحلِ الشامِ وغيرِها إذا اقتتلَ المسلمونَ والنصارى هواهُم معَ النصارى ، ينصرونَهُم بحسبِ الإمكانِ ، ويكرهونَ فتحَ مدائنِهِم كما كَرِهوا فتحَ عكَّا وغيرِها ، ويختارون إدالتَهُم على المسلمينَ، حتى أنهم لمَّا انكسرَ عسكرُ المسلمينَ سنةَ غازانَ سنةَ تسعٍ وتسعينَ وخمسمائةٍ وخلتِ الشامُ من جيشِ المسلمينَ عاثوا في البلادِ وسعَوا في أنواعٍ من الفسادِ منَ القتلِ وأخذِ الأموالِ ، وحملِ رايةِ الصليبِ وتفضيلِ النصارى على المسلمينَ، وحملِ السبيِ والأموالِ والسِّلاحِ منَ المسلمينَ إلى النَّصارى أهلِ الحربِ بقبرسَ (1) وغيرها، فهذا وأمثالُه قد عاينَهُ الناسُ وتواترَ عندَ منْ لم يعاينْهُ ، ولو ذكرتُ أنا ما سمعتُه ورأيتُه من آثارِ ذلكَ لطالَ الكتابُ ، وعندَ غيري من أخبارِ ذلك وتفاصيلِه مالا أعلمُه، فهذا أمرٌ مشهودٌ منْ معاونتِهِمْ للكفارِ على المسلمينَ ، ومن اختيارهِم لظهورِ الكفرِ وأهلِهِ على الإسلامِ وأهلهِ ، ولو قُدِّرَ أنَّ المسلمينَ ظلمةٌ فسقةٌ ومظهرونَ لأنواعٍ من البدعِ التي هيَ أعظمُ من سبِّ عليٍّ وعثمانَ رضي الله عنهما ، لكانَ العاقلُ ينظرُ في خير ِالخيرينِ وشرِّ الشَّرَّيْنِ ، ألا ترَى أنَّ أهلَ السنَّةِ وإنْ كانوا يقولونَ في الخوارجِ والروافضِ وغيرهِما من أهلِ البدعِ ما يقولونَ، لكنْ لا يعاونونَ الكفارَ على دينهِم ، ولا يختارونَ ظهورَ الكفرِ وأهلهِ على ظهورِ بدعةٍ دونَ ذلكَ
ج49- الرافضة إذا تمكَّنوا لا يتَّقونَ، وانظر ما حصلَ لهم في دولةِ السلطانِ خُدابندا الذي صُنِّفَ لهُ هذا الكتابُ ، كيفَ ظهرَ فيهم منَ الشرِّ الذي لو دامَ وقويَ أبطلوا بهِ عامةَ شرائعِ الإسلامِ، لكنْ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) [التوبة/32] ص 375 جـ (6) .
ج50- والرافضةُ من أعظم الناسِ إظهاراً لمودَّةِ أهلِ السنَّةِ ، ولا يظهرُ أحدهُم دينَهُ حتَّى إنهمْ يحفَظونَ من فضائلِ الصحابةِ ، والقصائدَ التي ( قيلت ) في مدحِهم وهجاءِ الرافضةِ ما يتوددونَ بهِ إلى أهلِ السنَّةِ، ولا يُظهِرُ أحدهُما دينَهُ كما كانَ المؤمنونَ يظهرونَ دينَهم للمشركينَ وأهلِ الكتابِ، فعُلِمَ أنهم مِنْ أبعدِ الناسِ عنِ العملِ بهذهِ الآيةِ .
وأمَّا قولُه تعالى: إلَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران/28] (2)
(1) - هي جزيرة فتحها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين وهي قبالة ساحل الشام لا تبعد عنه كثيرا ، وأعادها الصليبيين أثناء الحروب الصليبية إلى الكفر وقتلوا المسلمين فيها
(2) - وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 127)
وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين، قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم [ ص 128 ] والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } (1) أي: تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه } أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة، ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا، ولما في السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته، ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء، بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب، أو سنة من أحاديث رسول الله، أو تصور وبحث في علم ينفعه، أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه، أو نصح لعباد الله.