قال مجاهد: إلا مصانعةً، والتقاةُ ليستْ بأنْ أكذبَ وأقولَ بلساني ما ليسَ في قلبي، فإنَّ هذا نفاقٌ ، ولكنْ أفعلُ ما أقدرُ عليهِ
كما في الصحيح عَنْ أبي سَعِيدٍ قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » . (1)
فالمؤمن إذا كان بينَ الكفارِ والفجارِ لم يكنْ عليه أن يجاهدَهُم بيدهِ معْ عجزهِ ، ولكنْ إن أمكنهُ بلسانهِ وإلا فبقلبهِ ، مع أنهُ لا يكذبُ ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، إمَّا أن يظهرَ دينَه وإمَّا أنْ يكتمَهُ ، وهو مع هذا لا يوافقُهم على دينهِم كلِّهِ، بل غايتُهُ أن يكونَ كمؤمنِ آلِ فرعونَ وامرأةِ فرعونَ، وهو لم يكنْ موافقاً لهمْ على جميعِ دينِهم ،ولا كانَ يكذبُ ولا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، بلْ كانَ يكتُمُ إيمانَهُ ، وكتمانُ الدِّينِ شيءٌ وإظهارُ الدِّينِ الباطلِ شيءٌ آخرَ ، فهذا لم يبحْهُ اللهُ قطُّ إلا لمَنْ أُكرهَ بحيثُ أبيحَ له النطقُ بكلمةِ الكفرِ ، واللهُ تعالى قدْ فرَّقَ بينَ المنافقِ والمكرَهِ ، والرافضةُ حالُهُم منْ جنسِ حالِ المنافقينَ لا منْ جنسِ حالِ المكرَهِ الذي أُكرهَ على الكفرِ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ ، فإنَّ هذا الإكراهَ لا يكونُ عامًّا منْ جمهورِ بني آدمَ ، بلِ المسلمُ يكونُ أسيراً أو منفرداً في بلادِ الكفرِ ولا أحدَ يُكرهُهُ على كلمةِ الكفرِ، ولا يقولُها ولا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، وقد يحتاجُ إلى أنْ يلينَ لناسٍ منَ الكفارِ ليظنُّوه منْهُم ،وهو مع هذا لا يقولُ بلسانهِ ما ليسَ في قلبهِ ، بل يكتمُ ما في قلبهِ، وفرقٌ بينَ الكذبِ وبينَ الكتمانِ، فكتمانُ ما في النَّفسِ يستعملُهُ المؤمنُ حيثُ يعذرهُ اللهُ في الإظهارِ كمؤمنِ آلِ فرعونَ ، وأما الذي يتكلَّمُ بالكفرِ فلا يعذرُهُ إلَّا إذا أُكرهَ ، والمنافقُ الكذَّابُ لا يُعْذَرُ بحالٍ ، ولكنْ في المعاريضِ مندوحةٌ عنِ الكذبِ ، ثم ذلك المؤمنُ الذي يكتمُ إيمانَهُ يكونُ بينَ الكفارِ الذينَ لا يعلمونَ دينَهُ وهوَ معَ هذا مؤمنٌ عندَهُم يحبُّونَهُ ويُكرمونَهُ ،لأنَّ الإيمانَ الذي في قلبهِ يوجبُ أنْ يعاملَهُم بالصدقِ والأمانةِ والنصحِ وإرادةِ الخيرِ بهِم ، وإن لمْ يكنْ موافقاً لهم على دينِهم كما كانَ يوسفُ الصِّدِّيقُ عليه السلامُ يسيرُ في أهلِ مصرَ، وكانوا كفاراً ، وكما كانَ مؤمنُ آلَ فرعونَ يكتمُ إيمانَهُ ، ومع هذا كانَ يعظِّمُ موسى عليه السلام ، ويقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) [غافر/28، 29]
(1) - أخرجه مسلم (49)