حال القوة، وبين الضعف والقوة مراتب من التمكين توجب على المسلمين من التكاليف بحسبها، ولا يلزم من حصول بعض التمكين القدرة على جميع التكاليف، بل يجب عليهم ما يقدرون عليه وما عجزوا عنه سقط للعجز إلى حين القدرة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممكنا في المدينة في أوائل سني الهجرة، ومات - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخذ الجزية من المجوس، وصح عنه أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ومع ذلك فقد أقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقروا زمن أبي بكر على ما كان بينهم من نكاح ذوات المحارم، قال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة:"فلما عز الاسلام وذل المجوس في عهد عمر رضي الله عنه؛ وكانوا أذل ما كانوا رأى أن يلزمهم بترك نكاح ذوات المحارم؛ وأن يفرق بينهم وبينهن"، وعلى هذا فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الاسلام أقررناهم وما هم عليه؛ فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك؛ فهذا له مساغ) اهـ [الإيضاح لما أشكل على السائل في فتوى حماس] .
الدليل الثالث عشر: نماذج من تدرج السلف رضي الله عنهم وفتاويهم في ذلك:
1 ـ من أشهر أمثلته ما وقع من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز؛ فإنه جاء إلى الحكم بعد مظالم اقترفها بعض الذين سبقوه، فتدرج في الإصلاح ولم يتعجل في التغيير، فدخل عليه ولده عبد الملك، فقال له:(يا أبت: ما منعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فو الله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك.
قال: يا بني: إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب، وإني أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه)اهـ. [صحيح: أخرجه الخلال في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ص 37] .
وروى ابن الجوزي أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه أمير المؤمنين الخليفة الراشد الخامس وقت قيلولته يستعجله برد المظالم إلى أهلها، فقال له عمر:"يا بني، إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومتي الأجر مثل ما أحتسب الذي في يقظتي، إن الله لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، لكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكن الإيمان في قلوبهم) [سيرة عمر بن عبد العزيز: 127] ."
وروي أن ابنه عبد الملك قال له: (يا أبت لم لا تنفذ الأمور؟، فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة) [العقد الفريد 1/ 30، الموافقات 2/ 94] .